من الأعمال البشرية التي اعتاد الناس ألا يحسبوها بين الفنون بأن تكون فنونا. فهو يسمح للنجارة إذا كان فيها من روح النجار وذوقه الخاص أن تكون فناً، كما يسمح لصيد السمك إذا كان فيه من وسيلة خاصة ترجع إلى ذوق الصياد وتلهمه إياها روحه أن يكون فناً. وهكذا فليس من عيب في هذا التعريف إلا إمكان تعميمه على الأعمال البشرية جميعاً
وقد لا يكره هذا التعميم إلا الفئة الخاصة من الفنانين الذين يبدعون تلك الفنون التي اصطلح الناس على تسميتها فنوناً جميلة. فهؤلاء وحدهم أو بعضهم هم الذين يحبون أن يقتصر الإنصاف بالفن عليهم فلا يكون النجار فناناً، ولا يكون صياد السمك فناناً، ولا يكون أحد من الناس فناناً إلا من كان أديباً أو موسيقياً أو ممثلاً، أو رساماً، أو واحداً من هؤلاء الذين يسبحون في (السموات العلى) لا لشيء إلا اعتادوا التعالي على البشرية بأدبهم وموسيقاهم وتمثيلهم ورسمهم
غير أن هذا في الواقع نوع من الأرستقراطية القاصرة، أو المقصورة يكرهه الفن الصحيح. والفن لا يكرهه لأنه ديمقراطي بطبعه أو لأنه بلشفي، وإنما يكرهه لأنه دون الأرستقراطية التي يحبها لنفسه. فالفن متعصب كل التعصب لأرستقراطية الروح، وهو يفخر بأن ينسب إلى نفسه كل ما انتسب إلى الروح من أعمال البشر، حتى ولو كان نجارة أو صيد سمك، ولكنه يأبى أن ينسب إلى نفسه كل ما خلا من الروح حتى ولو كان لحناً أو شعراً أو رسماً.
والفن في هذا لا يحيد عن الحق. وأشرف للفن أن يحتضن النجارة وصيد السمك متى جمعنا الروح والذوق، من أن يحنو على كلام سخيف منظوم ولكنه ميت، ومن أن يدخل إلى حظيرته ألحاناً روعي فيها أن تكون تطبيقا عملياً لقوانين الصوت والنغم، ولكنها ما تزال جامدة كأنها الصوت ضغط وتركز حتى تحجر!. . .
ولا أظن أهل الفنون الجميلة إلا مقتنعين بهذا الرأي، وما أظنهم بعد اليوم إلا آخذين به، فهم مقربون إليهم كل من تنفذ روحه إلى عمله، وكل من يسري من نفسه إلى عمله لونه الخاص يطبعه ويلونه، فيكون عمله تعبيراً عنه يعرف به. وهم مبعدون عنهم كل أجرد النفس، قاحل الحس، مجدب الروح والشعور، وإن قضى حياته يعزف على الأوتار، أو يسود الصحائف بالحبر.