وقد يعنينا أن يؤمن الفنانون بهذا الرأي مثلما يعنينا أن يؤمن به الجمهور، وأن يأخذ به النقاد أخذاً شديداً، وأن يعدلوا عن قياس الفنون إلا بمقياسه، وأن يشيع قياسهم لبقية الأعمال البشرية بهذا المقياس. فإنهم إذا فعلوا هذا فإنهم سيبرئون الفنون من طفيليات كثيرة تلتصق بها وتدعى النسبة إليها، كما أنهم سيعودون بالحق فيعترفون لكثير من الأعمال البشرية الفياضة بالروح بأنها فنون.
صحيح أنه مقياس قاس، ولكنه في الوقت نفسه مقياس عادل، إذ يرد إلى كثيرين من أصحاب الجهاد الروحي اعتبارهم الإنساني بعد ما ظلوا الأحقاب الطويلة وهم لا يحصون بين الناس إلا على أنهم صناع أو عمال. زد على ذلك أنه سيكشف لنا الأقنعة عن وجوه كثيرة متنكرة: لها أرواح ولها فنون ولكنها تتكلف في الحياة فنوناً غير فنونها فتعيش فيها ميتة بدون أرواح لأن أرواحها منصرفة إلى ما تصبو أليه
وكي يتصور القارئ قسوة هذا المقياس فليطبقه على بعض الأعلام من الذين يقال عنهم في مصر إنهم فنانون
فلنأخذ في الأدب مثلاً الأستاذ أحمد أمين، ولنأخذ في الموسيقى مثلاً الأستاذ محمد عبد الوهاب، ولنأخذ في التمثيل مثلاً الأستاذ جورج أبيض، ولنأخذ في الرسم مثلاً الأستاذ محمد ناجي الذي كان ناظراً لمدرسة الفنون الجميلة العليا إلى عهد قريب
أما الأستاذ أحمد أمين فقد أثبت عليه الدكتور زكي مبارك في مقالاته الأخيرة بالرسالة أنه أستاذ يكتب ولكنه لا يسري من روحه شيء في كتابته، فأنت لا تعرفه حين تقرؤه إذا كان راضياً أو كان غاضباً، وأنت لا تشعر به إلا هادئاً دائماً وفاتراً. وحسبه هدوءاً وفتوراً ما سجل عليه الدكتور زكي مبارك مظهره وهو أنه عاش وقتاً طويلاً في الواحات فلم يعرف الناس انه عاش في الواحات إلا يوم أعلنت هذه الحقيقة الغريبة على صفحات الرسالة في الجدال الأخير. بل حسبه هدوءاً وفتوراً وبعداً بفنه عن الروح أنه كان قاضياً ومع هذا فإنه لم يكتب قصة واحدة من قصص الحياة التي عرضت له وهو في القضاء. وهذا دليل على أنه يعيش في دنيا، ويكتب في دنيا أخرى. وهذا يستدعي واحدة من اثنتين: فإما أن يكون الأستاذ أحمد أمين بروحين يعيش بواحدة ويكتب بالأخرى ولا صلة مطلقاً بين الواحدة والأخرى، وإما أن يكون كما هو الآن متنكراً يعيش ويكتب فلا تعرفه على حقيقته ما عاش