آلمهما فراقه، وأحزنهما أن سيكون بينهما وبينه هذا البحر الفسيح وهذا البر العريض، وأن يهزهما إليه الشوق، فلا يستطيعان إليه سبيلا، ويحترق الصدر وجداً وهيهات الشفاء. . . في هذه الليلة رأى حسن أخته في المنام، ولقد غادرها في مصر حليفة السقم. . أما اليوم فقد ابتسمت إليه حين رآها، وطلبت منه أن يعود إليها رجلا عظيماً. . . عجب كيف حالهم اليوم، وهل يختلف الجديدان عليهم بالسعادة أو النعيم، أم بالشدة والشقاء؟. . . وهل اعتادت الأم فراق الابن الوحيد، الذي لم يفترق عنها منذ أن رزقته بعد يأس، فكان قرة العين، وشفاء ما بالصدور. . .
وها هو ذا قد اضطر لأن ينزح عن داره، وأن ينزل هذه المدينة الداوية الصاخبة، وقد التحق بجامعتها، وأخذ يجد في طلب العلم ومضى عليه تحت هذه السماء الرمادية اللون أسبوعان، لم يكتسب فيهما صديقاً جديداً، ولم يحاول أحد أن يتعرف به أو يتقرب اليه. . . كان كذبا ما زعمه المتشدقون من أصحابه في مصر: أن الناس في هذه البلاد يقبلون على الغريب، ويجدون في إرضائه واكتساب صداقته. . لقد كان الناس يجيبون على سؤاله إذا سأل بجواب هادئ قصير، لا يحمله على المضي في الحديث بل سرعان ما أشعر أن بينه وبينهم سوراً غليظًا وعراً، هيهات له أن يجتازه. ولم تطل به الحال حتى اعتاد أن يقابل البعد بالبعد والصد بالصد. . . وهكذا أمسى وأصبح وحيداً غريباً، وسط هذا المزدحم الزاخر من الناس.
واستيقظ في صباح هذا اليوم ونهض من فراشه في شيء من النشاط. . وكان ذاك آخر أيامه في هذا (البنسيون) الذي قضى فيه هذين الأسبوعين، وكان عليه اليوم أن يبادر بإعداد حقائبه وجمع ما تناثر من أمتعه. وكان مغتبطا ناعم البال، لأنه وفق أخيرا إلى هذا المسكن الجديد في المنزل رقم ١٧. . فمنذ اليوم سيكون له حجرتان: حجرة يجلس فيها ويطالع أسفارها ويتناول طعامه. والأخرى لنومه وراحته، ولقد كان من حسن الطالع أن غرفة نومه تطل على تلك الحديقة الغناء، فيستطيع أن يطالع من نافذته ابتسام الربيع وقهقهة الصيف، وهدوء الخريف ووجوم الشتاء. . . أما هذا البنسيون في (اكسفورد ستريت) فلم يكن له فيه سوى غرفة صغيرة، ولم تكن إقامته فيه إلا ريثما يتحول عنه. . ومع هذا فان صاحبته اليهودية لم يرضها منه أن يغادر البنسيون، فلم تكن تلقاه - منذ