إن تعليم اللاتينية واليونانية في أوروبا لم يشغل الموقع الذي شغله في نظم الدراسة بناء على تأملات وملاحظات تربيوية؛ إنما شغل هذا الموقع تحت تأثير عوامل ووقائع تاريخية كلها خارجة عن نطاق الفوائد التربيوية. . . وأما الفوائد التعليمية والتربوية التي ذكرت فيما بعد لتبرير الحالة الراهنة - بغية إبقاء ما كان على ما كان - فلم تستطع أن تقاوم المحاكمات المنطقية والأبحاث العلمية مدة طويلة. . . ولهذا أخذ نطاق هذا التعليم يتقلص من جميع الجهات تقلصاً مستمراً؛ ولم يعد يمتد الآن إلا على جزء صغير من ساحة الدراسة الثانوية. . . كما أن بقاء هذا التعليم في هذه الساحة الأخيرة أيضاً لا يمكن أن يعلل ويبرر إلا بقوة الاعتياد والاستمرار من جهة وبرابطة الأدب واللغة من جهة أخرى
وأما فكرة اعتبار اللاتينية (واسطة ضرورية لتثقيف العقول) فهي من النظريات التي ثبت خطؤها كل الثبوت: إذ قد أصبح من المسلم في علم التربية أنة لا يوجد موضوع مدرسي (مثقف) في حد ذاته كما أنه لا يوجد موضوع مدرسي يحتكر قابلية التثقيف لنفسه. . . وأما (التأثير التثقيفي) الذي يحصل من الدروس فلا يتبع الموضوع الذي يدرس، وإنما يتبع الطريقة التي يتم بها التدريس. . . فعندما نود أن نجعل (الثقافة) هدفنا الأسمى في الدراسة الثانوية يجب علينا أن نعلم حق العلم أن الوصول إلى هذا الهدف، لا يتم إلا بالبحث عن أوفق (طرق التدريس) لضمان التثقيف والسير على تلك الطرق على الدوام. وأما إضافة لغة أو لغتين من اللغات الميتة إلى مناهج الدراسة، فلا يمكن أن يضمن لنا شيئاً من أهداف التثقيف بوجه من الوجوه
فليس من المعقول - والحالة هذه - أن نضيع أوقات طلابنا في المدارس الثانوية في سبيل تعليم اللاتينية واليونانية
هذا. . . ولا بد لنا من ملاحظة الحقائق الهامة التالية أيضاً في هذا الصدد:
(ا) إن تعليم اللغة العربية يستنفذ من أوقات وجهود أبنائها أكثر من الأوقات والجهود التي تتطلبها اللغات الأخرى من أبناء الناطقين بها؛ وذلك لزيادة تعقيد قواعد العربية من جهة وللنقائض السائدة على أساليب تدوينها من جهة أخرى
(ب) إن حاجة أبناء العربية إلى تعلم اللغات الحية اشد من حاجة الأمم الأوربية الراقية إلى تعلم تلك اللغات؛ وذلك لفقر خزانة الكتب العربية من جهة المؤلفات العلمية والأدبية