السمو الروحي للدرجة المقدرة له. هذا إذا جاريناهم لنستدرجهم، لأنه لم يقل أحد بتحديد اللذة وإن كنا نختلف في درجات النعيم، فكما أنك في الدنيا لك أن تستعمل ملكك في كل أوجه الاستعمال إلا الاستعمال المنافي للقانون أو الذي فيه إساءة لاستعمال الحق أو التعدي على الغير، فأقل ما يتصور أن تكون كذلك في الآخرة لا يحد من استعمالك إلا بعد هذا الاستعمال عن جو السمو الروحي الذي يشع على المؤمنين. ثم إن تحديد الدرجات لا يمنع أن أتمتع بكل ما أستطيع من النشوة الروحية، لأن الممنوع ليس الصعود في نشوتي بل الرقي عن درجتي. ثم إن الذي يحدد هذه الدرجة هو معرفة الله، فبقدر معرفته سبحانه ستكون درجات النعيم، وبقدر معرفته سبحانه ستكون اللذة. ولعل الذين ينكرون هذه الفكرة، يفهمون قول التلمساني إن من شئون النفس أنها كلما قل اشتغالها بالبدن انبسطت وأعطت قواها، وأنها كلما ازدادت علماً فعلمت به، ازدادت قوة على ما هو أغمض وأرفع، فلا هي تنحصر ولا الأمر ينتهي. ولذا رأى المناوي أنه على من أراد أن ينزع عن عالم الحس ويرجع إلى ذاته، أن يعمل على ركود حواسه الظاهرة ليقوى على أن يحس بما لا يقع عليه الحس. فإذا فهموا معنا أن النفس الإنسانية كما قال الغزالي ليست جسماً ولا جسمانية بل هي جوهر مجرد (أي ليست قوة جسمانية حالة في المادة ولا جسماً بل ولا مكانية لا تقبل الإشارة) متصرف في البدن تصرف التدبير من غير أن تكون داخلة فيه بالجزئية والحلول، استطاعوا أن يعرجوا مثل فيثاغورس إلى العالم العلوي (إذا سما جوهرهم) وأن يسموا مع أرسطو وأفلاطون إلى درجة الخروج عن البدن كأنهم مجردون لا أبدان لهم، فيرون أنفسهم داخلين في ذواتهم خارجين عن سائر الأشياء، ويروا في نفوسهم المتجردة من أثقال البدن أنواعاً من الحسن والبهاء، ما تعجب وتريهم أنهم من الجوهر الأعلى الأفضل الشريف وأنهم ذوو حياة فعالة كما قال العلامة مسعود التفتازاني فيفهمون مع الصوفيين أن كل المخلوقات بأسرها مظاهر صفات الله وطريق إلى القرب منه وزيادة معرفته. فإذا ما فهموا معنى هذا فإنا لا نبخل عليهم في أن نضرب لهم مثلاً لحسيات تسمو بأرواحهم، وأسمى مثل هو مثل الصور الجميلة الآدمية وهي حسيات تدعو الكثيرين إلى أحط أنواع اللذات الحسية، ولكنهم إذا أتبعوا السمو الذي ذكرنا، فأنهم واصلون إلى فهم أن هذه الصور موصلة إلى معرفة معانيها، وما معانيها إلا إدراك قدرة الله تعالى وعظيم شأنه