مواضع في الكتاب مختلفة لم يقصد بها إلا مجرد المعصية والخروج عن الطاعة
وفي مسألة البعث لا يوافق أبو العلاء الجهمية ولا المعتزلة. إذ إن كلا الفرقتين تجمعان على البعث. الأولى تقول بأن ذلك جبر والحساب والعقاب جبر كذلك. والثانية تقول به نتيجة إسنادها الأفعال للإنسان. وأما أبو العلاء فلا ينفي شيئاً ولا يثبت شيئاً كما رأينا
ونجده حين يتعرض لذات الله يذهب مذهب المعتزلة والمعطلين؛ فهو لا يثبت لله صفة (وكيف يوصف بشيء خالق الصفات). وهذا نص واضح صريح. وأما قوله بأن الله حده الزمان وبأن المادة أزلية فلا يعنينا هنا كثيراً فليس هذا مقام البحث في فلسفة أبي العلاء الإلهية على وجه عام، وإنما الذي يعنينا هو إثبات الصفات للذات أو تجريدها عنها
استعرضنا أفكار أبى العلاء الجبرية في كل ما تقدم ورأينا ما كان من اضطرابه وتنقله بين المذاهب المختلفة تنقلاً هو أقرب إلى تنقل الشاعر الذي يؤمن بالفكرة لحظة طروقها، ويؤمن بها حين يسجلها أيماناً بجعلها قطعة من نفسه في لحظة ما، أقرب إلى ذلك من تفكير الفيلسوف ينظر في الكون بنظر خاص به، وبه وحده. ونحن لا يمكن أن نقبل هذا الاضطراب من مفكر نحاول أن نقيم له فلسفة ذات أصول وفروع. هذا الاضطراب ليس ناتجاً عن ضعف في التفكير، ولا عن اتهام في العقل وشك في قوته على استكشاف الحقائق واستنباط الأحكام، بل عن تلاشي الشخصية في ذلك المجتمع الإسلامي الذي شاع فيه الحكم بالمروق عن الدين وما يتبع ذلك من إيذاء لم يكن المعري يحب أن يتعرض له؛ فكان إن اضطر إلى النقية والمصانعة بصرف الناس إلى الظاهر من الأمر. بل لعله اضطر إلى هذا الشك وتلك الحيرة لأنه درج على إثبات إله قادر حكم فلم يستطع - أو قل لم يحب - أن يعطله مما يقعد به عن الحكمة والعدل والكمال
وهو كان يدعو بعد كل هذا إلى الزهد؛ ولكن على أي أساس بنى هذا القانون الأخلاقي؟ وما الباعث؟ أكان ثقة منه وأيماناً بل هذه الدنيا مظهر من المظاهر الزائفة وظل للرغبات والأهواء على النفس الإنسانية والعقل البشري، فليس لها كيان واقعي خارج تلك النفوس والعقول؟ فهو يدعو إلى الزهد مبصراً الناس بهذه الحقيقة التي اكتشفها وفطن إليها؟ وهل هو استطاع أن يتبين في وضوح صلة الإنسان بهذا الكون؟ وهل أمكنه أن يدرك حقائق ثابتة وراء هذه العصور الزائلة الخادعة نسبته إليها كنسبة أي فرد من أفراد البشر إليها