فدعا إلى الفضيلة والتراحم باعتبار أن آلام الآخرين هي آلام الشخص وآلام الشخص هي آلام الآخرين لتلك الصلة التي أدركها؟
أغلب الظن بأن باعث هذه الدعوة لم يكن شيئاً من هذا، وإنما كان باعثاً سلبياً محضاً نتج عن جهله بما وراء الموت وخوفه من ذلك ورهبته وعدم تبينه ما يراد به من عقاب وثواب. فهو أن أوصى بالصلاح والزهد فذلك حتى لا يكون المرء - إذا صح البعث والحساب - من الخاسرين. من هنا نرى أن قانونه الأخلاقي الذي أستنه قد بنى على قاعدة سلبية محضة ليس فيها من الفلسفة قدر ما فيها من الحيطة والحذر الذين يوجبهما الجهل والتوقف. وكان الباعث كذلك نوعاً من الضيق القوي لظروفه الاجتماعية والشخصية جميعاً. فلذلك دعا إلى الوحدة والزهد في الناس:(فإن الوحيد في العالم لا يلحقه عيب من سواء). فهو كذلك يتقي المجتمع بطريقته السلبية. هو لا يحاول إصلاحه، فهو يائس من ذلك؛ ولكنه يتجنبه ويتقيه، وكان الدافع كذلك سخطاً شديداً على تحول الدنيا وعدم بقائها على حال:(فالدنيا حية عرماء، لمعة بيضاء، ولمعة دهماء، والأيام عوارم لا تترك لحى عراماً). إذن (ما البقاء إلا طول شقاءٍ، والحياة ظلمة ليس فيها إياة، ومن السعادة أن يموت القوم كراماً). ولكن (أولع الولد بالرغاث). وهو يهيب لذلك أن يا راغبُ رُع، والخشية فادرع، نحن على الدنيا نقترع، نتسايف ونسطرع والقدر لنا مضرع وهو يخاطب الدنيا معبراً عما يسخطه منها:(أيتها الدنيا البالية، ما أحسن ما حلتك الحالية، أين أممك الخالية، أن لُذ بك المتوالية والنفس عنك غير سالية، تتبع أولاك التالية، والله استنجد على تلك الصعدات) وحزنه على الدنيا ناتج عن إنها تخلط بين الفرح والسرور. فقد يكون الرجل كاسياً يمثل ريش الأخيل، وشبابه كروضة الوسمىّ، وعيشه أوسع من الموماة، وعروسه الصالحة الحسناء، فلا يخلو في ذلك من الكدر. إن داء الدنيا عرف قديماً، لا بد له من الانتقال، إما بالموت وإما بالحياة يمكن أن تكون عيشته زاردة مثل الزردة، ويلبس أخلاق ثياب كلباس الرأي، ويعارق العروس أم أن تهلك، وإما أن تختار سواه، وتكون روضة شبابه هشيما) والشواهد على ذلك كثيرة لا تكاد تحصى. وكل ما يمكن أن نستخلصه منها أسباباً لاعتزال أبي العلاء للدنيا ونصحه الناس بالزهد فيها لا يعدو أنها متقلبة لا تدوم، وأن خيرها يختلط بالشر وسرورها يختلط بالكدر، إلى غير ذلك من معاني الشعراء. فهل