لو كانت ظروف أبى العلاء غير ما كانت، وهل لو كانت الدنيا على غير ما وصف أترى كان دعا إلى الزهد؟ ربما كان رأى في الكون ما رأى ولكنه لم يكن يبني الزهد في الدنيا على الأساس الذي بنى عليه دعوته التي رددها في الكتاب كثيراً
ولماذا حرص أبو العلاء على أن يثبت حكمة لتلك القوة التي تصرف أمور الناس، مع شقائه بهذه الحكمة لعدم الاهتداء إلى مراميها؟ تلك الإرادة التي بحث أبو العلاء عن حكمتها فلم يوفق والتي كانت مثار قلقه واضطرابه، والتي يخشى أن يتهمها بالظلم، لما يراه من تناقضاتها ومفارقاتها؟ كان مذهبه يستقيم، وعقله يطمئن إلى ما وصل إليه من تفكير لو أنه قال بإرادة غير عاقلة غاشمة، فإذا ما جردها من العقل والحكمة فلا جناح عليها أن تأنى من المفارقات ما يشاهد أبو العلاء وأكثر مما يشاهد. ولكنه مفكر (شاعر) في (وسط إسلامي) أنشأ الكتاب ليمجد الله ويعظ.
وقد حاول الأستاذ علي أدهم أن يعقد صلة بين أبي العلاء وبين شوبنهاور. ولست بصدد أن أتحدث عن نصيبها من الصحة. وإنما أقول أن أوجه الشبه إن صدقت في وجهات متعددة من نظر الرجلين إلى العالم والمجتمع بحكم ما بينهما من مزاج التشاؤم، فأنها لم تصدق في تلك الناحية الخاصة. حقاً إن كلا الرجلين قد أثبت الجبر وقال به. ولكننا إن تجاوزنا عن اختلاف الوسائل التي سلكاها فإنا لن نتجاوز عن فرق دقيق بين الجبريتين
أبو العلاء ردد كثيراً أن القوة المسيرة للكون (عاقلة) يصدر عنها الأفعال، والأقدار، والأرزاق، عن حكمة خفية لا يدرك كنهها وإن اجهد نفسه الجهد كله؛ وهو كذلك لم يستطيع أن ينظر إلى العالم نظرة تجريدية فلسفية، ولكنه قرر على أي تقدير بأن الدنيا شر، والطريقة المثلى للتخلص من شرورها وآلامها هي الزهد فيها وكبح الشهوات، وكبت الغرائز، والخلوص إلى العبادة والتفكير
وشوبنهاور قد اعتبر الحقيقة المطلقة إرادة عامة (لا تعقل) وذهب إلى أن ليست ثم إرادة فردية، فالفردية مجرد وهم لأنها قائمة على فرق الزمان والمكان. وقد قرر أن الإرادة شر في أساسها، وهي شبق حافز إلى الوجود، وحرص على اللذة والتمتع؛ فالحياة إرادة ورغبة تفيضان إلى الشقاء لأن الإرادة لا يمكن أن تروى غلتها أبداً من الرغبة في الحياة. وهو يعتبر غاية الحياة لذلك هي (الشقاء) وأفضل السبل فيها أن يخترق الإنسان حجب الوهم