ولقد بدأ عصر النار منذ آلاف كثيرة ة من السنين. وليس على وجه الأرض قبيلة ليس لديها أسطورة عن نشوء النار للمرة الأولى وصيرورتها في حوزة الإنسان. ذلك بأنه ليس في وسع مخلوق غير الإنسان أن يصنع النار، وأن مقدرته على صنعها جعلته في مستوى أرفع كثيراً من مستوى الحيوان، وكل أسطورة من هذه الأساطير تنص على أن النار كانت عند الآلهة، ويختلف بعضها عن بعض في بيان الطريق الذي حصل به الإنسان على النار، فيروي اليونان أن بروميذيوس صعد إلى السماء وأوقد شعلته من عربة الشمس، وسرق النار فنزل بها إلى الأرض. وقد كان الآلهة لا يريدون أن يحصل الإنسان على النار، لأنهم يعلمون أنه بعد حصوله عليها سيصبح كأنه واحد منهم، فهو بواسطتها يستطيع تعرف أسرار الأرض والانتفاع بكنوزها، وكانوا لا يرون أن يحبوه هذه المعجزة
ولا يعرف أحد حق المعرفة كيف عرف الإنسان سر صنع النار. وربما كان السر رؤيته البرق يصيب الغابات الجافة فيحرقها. وربما كان فيمن رأوا ذلك المشهد رجل أجرأ ممن عداه فاحتفظ بجزء من النار السماوية عندما وجدها تحرق الغابة بتعهده إياها وبتغذيتها بالوقود. فإن كان أحد قد فعل ذلك فمما لا ريب فيه أن قبيلته تعده مخوفاً محترماً لأنه عرف أسرار الآلهة. وقد كان في كل قبيلة أناس من مهمتهم أن يتولوا حراسة النار، فكانوا يتناوبون حراستها أناء الليل وأطراف النهار ويغذونها ويتعهدونها كيلا تخمد فيخسر الناس هذه الهبة الغالية من هبات الآلهة ويموت الإنسان برداً. والأرجح أن مئات من السنين منذ اليوم الذي عرف فيه الإنسان كيف يحتفظ بالنار قد مضت والإنسان منتفع بالنار دون أن يعرف كيف يحدثها. وكان كل ما في وسعه أن يبحث عنها حيث توقدها آلهة البرق أو إله الغابة، فيحمل منها قبساً إلى كهفه وينعم به. ثم جاء يوم صنع فيه الإنسان النار لنفسه، إما بسنه قطعة الخشب محددة على لوحة صلبة من البلاط، وإما بدق حجرين من الصوان. وعلى أي الفرضين فإن اللحظة التي استطاع فيها الإنسان صنع النار كانت أعظم لحظة في حياة الإنسان في عهده الأول، فإن وجود هذه القوة في يده مكنه من المفتاح الذي يستطيع به استخراج ما في الأرض التي يسكنها من كنوز.