كانت الرقابة شديدة على كل ما يطبع ولاسيما الصحف السياسية. وكنا نحن الذين ننشر في الصحف بعض المقالات أو القصائد من حين إلى حين نعرف مبلغ تلك الرقابة، ونسمي (الرقيب) بالمكتوبجي تشبيهاً له بالرقباء على الصحافة في تركيا العتيقة، أيام السلطان عبد الحميد
كان المكتوبجي التركي يلمح كلمة (المراد) فيحذفها مخافة أن يكون الكاتب مشيراً بها إلى حبس السلطان مراد
وكان يلمح كلمة (الرشاد) فيحذفها مخافة أن يكون المقصود بها ولي العهد محمد رشاد
وكانت تأتي الأنباء بقتل عظيم من العظماء فتعلم الدنيا كلها جلية النبأ إلا قراء الصحافة التركية فيهم لا يعلمون إلا أنه قد مات بالحمى أو مات بالسكتة القلبية. . . وقس على ذلك سائر الأنباء
وعلى هذا النحو - أو على قريب من هذا النحو - سار بعض الرقباء في قلم المطبوعات الموكول إليه أن يراجع الصحف قبل نشرها، وأن يحذف منها ما يثير الخواطر ولا راد لقضائه، فكانوا يندسون بين السطور بل يندسون في ألفاف مخ الكاتب حتى لا يقع في خلده أنه قد غلبهم بالدهاء وقد (فوت) عليهم كناية من الكنايات، وهم الأذكياء الألباء!
ويحضرني من نوادرهم أنهم حرموا علي ذكر الاستقلال في قصيدة شعرية فغلبوا القائد العام لدولة الحماية! لأنه لم ينكر استقلال مصر عند إعلان الحماية عليها، بل وعد برعايته والمحافظة عليه
أرسلت إلى (الأهرام) قصيدة في وصف (هيكل أدفو) ختمتها بالأبيات الآتية وتبدو فيها أخيلة الحرب وأطيافها:
الناس يغتال القوي ضعيفهم ... ولدهر يغتال الفتى المغتالا
قهار كل القاهرين تقاصرت ... عنه مكائد من طغى واحتالا
ذهبوا فما هوت الكواكب بعدهم ... أسفاً وما نقص الثرى مثقالا
ملكَ الفراعنةُ الحماةُ وخلفوا ... للملك أعلاماً بمصر طوالا
وخلا الأكاسرة البغاة كأنهم ... عبروا بمدرجة الزمان رمالا
ومضى البطالسة الكماة وهذه ... مصر يزيد شبابها إقبالا