ومجراها، أو بعبارة أخرى يجب أن تكون الأخلاق بحيث تعاون الفرد على البقاء في مضطرب الأهواء المختلفة المتنازعة التي تصدر من أعضاء المجتمع. ولما كانت هذه الملاءمة بين الفرد والمجتمع تختلف باختلاف الزمان والمكان، كانت بالتالي فكرة الخير تختلف عند الشعوب أوسع اختلاف. ويرى سبنسر أن الطبيعة قد زودتنا بمقياس دقيق نميز به الطيب من الخبيث، وهو مقياس السرور والألم، فإذا صادف سلوكنا من أنفسنا ارتياحا ورضى، كان ذلك دليلا على ملاءمته للحياة الكاملة، لان ذلك الاطمئنان الباطني علامة على أن الطبيعة قد اختارت ذلك السلوك ليكون سبيلا إلى حفظ الحياة. فأنت تستطيع إذن أن تفرق بين الخير والشر، بما يبعثه العمل المعين من سرور أو الم لأنهما دليل ساقته الطبيعة نفسها للتفريق بين هذا وذاك.
نعلم مما تقدم أن الأخلاق يختلف لونها باختلاف البيئة الطبيعية أو الاجتماعية، لأن الأولى صدى الثانية وانعكاسها، ولما كان نظام المجتمع في العصور الوسطى أخذ يتطور في كثير من أسسه وقواعده، كان حتما أن ينشأ عن هذا التحوير انقلاب في فكرة الأخلاق. فقد كانت أكاليل المجد والفخار لا تعرف موضعا غير هامة الفرسان المقاتلين، فأما هؤلاء الذين يقضون نهارهم في الزراعة والصناعة فعبيد أرقاء حقب عليهم الذلة والهوان، ولكن وجهة النظر أخذت تتطور منذ حلت الصناعة ورسخت قدمها، لانها تعتمد كما قدمنا على القوة العقلية، فأضحى العمل أشرف ما يمارسه الإنسان. لأنه عماد المجتمع وسنده. . . ولما كان هذا العمل لا ينمو ولا يستقيم إلا تحت ظل العدالة، وهذه بدورها لا تورق أو تزدهر إلا في جو من الحرية؛ كانت هذه الحرية أول واجب في عنق الدولة، وقد عرف سبنسر العدالة بان:(كل إنسان حر في أن يفعل ما يشاء، على شريطة ألا يتعارض ذلك مع حرية إنسان آخر له ماله من حقوق). ولا يستقيم هذا النص مع نزعة الحرب، لانها تعبد سلطان القوة وتفرض الطاعة العمياء، ولكنه شرط أساسي لنجاح الصناعة لأنها تعتمد على السلام والحرية في الراي والابتكار.
تلك هي حقوق الإنسان الأساسية عند سبنسر. حق الحياة وحق الحرية، فأما شكل الحكومة فلا يقيم له وزنا، فلتكن ملكية مطلقة أو دستورية أو ما شئت من نظم، فما لنا ولها ما دمنا نتمتع بالحرية والحياة؟ وفي هذا يسخر سبنسر من النساء اللائي يلححن في طلب الحقوق