ولما كانت الصناعة تستقي ماء حياتها من العلوم، فلا ريب في أن تقدمها وانتشارها ينتجان تربية التفكير العلمي وصحة الاستنتاج للأسباب والمسببات، ولن يلجأ الإنسان بعدئذ إلى قوى الطبيعة الخارقة والأبالسة والشياطين يعلل بها أحداث الحياة. . . وفوق هذا كله سينقلب التاريخ رأسا على عقب، فستزدهر صحائفه بذكر الرجال العاملين بدلا من الملوك المحاربين، وسيفسح في مجاله للمخترعات والأفكار. . . سيزداد الشعب سلطانا وقوة، وتتقلص سطوة الحكومة وتنكمش، وسيبطل ذلك الوهم العتيق البالي الذي يفرض على الفرد أن يحيا من أجل دولته، وأن يضحي بنفسه في سبيلها، وسيعلم الناس حقا ان الدولة إنما وجدت وأنشئت لصالح الفرد، وان كان هذا هكذا فلا يجوز أن تضحي الحياة من أجل العمل، بل يجب أن يكون العمل أداة تستغلها الحياة في تحقيق السعادة والهناء.
تطور الأخلاق
على أي أساس نشيد مبادئ الأخلاق؟ وبأي مقياس نزن الخير والشر؟ أما سبنسر وأتباعه فلا يترددون لحظة في إخضاع الأخلاق، كأي شيء آخر، إلى قوانين التطور وانتخاب الطبيعة، وبعبارة أخرى يريدون أن نلقي بزمام الإنسان فقي يد الطبيعة نفسها تختار من أخلاقه ما تشاء. وقد ناهضهم طائفة كبيرة من العلماء والكتاب، يربأون بأخلاقنا التي تواضع المجتمع عليها أجيالا متعاقبة، أن توضع بين مطرقة الطبيعة وسندان التطور، يفعلان بها كيف شاء لهما الهوى وفي ذلك يقول هكسلي: إن علم الحياة لا يصلح دليلا خلقيا بأية حال من الاحوال، اذ كيف نترك مصيرنا في كف الطبيعة العمياء، وهي كما قال عنها تنسون الشاعر الإنجليزي (ملطخة بالدماء ناباً ومخلباً)!! نعم، كيف نذر الطبيعة تصب في قوالبها ما يطيب لها من أخلاق وهي كثيراً ما تمجد الوحشة والمكر والخداع وتمقت الرحمة والعدل والحب؟!
ولكن تحدث بهذا المنطق لغير سبنسر! لابد أن تخضع مبادئ الأخلاق للانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء، وليبق من أخلاقنا ما يصمد لهذه التجربة القاسية، وليفن منها ما تذروه هذه الريح العاصفة. . . الأخلاق - كأي شيء آخر - تعود على الإنسان بالخير أو بالشر بمقدار ما تساوق أغراض الحياة (والخلق السامي هو ذلك الذي يسير مع الحياة ويشاطرها فيما ترمي إليه) فلنقبل من الأخلاق ما يلائم الحياة، ولنرفض منها ما يعترض سبيلها