عرض تافه لا يمس الجوهر والصميم، وأما الحد الفاصل الذي يميز دولة من دولة، فهو أساس بنائها الاجتماعي. هل يقوم علت النزعة الحربية أم يصطبغ بصبغة الصناعة، وبعبارة أخرى تنقسم نظم الاجتماع نوعين: جماعة تعيش من أجل النزال والقتال، كما كانت الحال في نظام الاقطاع، وجماعة لا تجد في الحياة هدفا تتجه صوبه وتحيا به ومن أجله سوى العمل، فتلك تحارب من أجل الحياة، وهذه تعمل من أجل الحياة.
وللدولة الحربية صفات تلازمها، منها ان السلطة تتركز في قبضة الحكومة وحدها، ويغلب أن تكون حكومة ملكية لا تدخر وسعا للتفريق بين الشعب الواحد إلى طبقات بعضها فوق بعض، فتكون الحرب والفروسية صناعة الأشراف، وللسوقة الصناعة وفلاحة الأرض. . . كذلك تعظم في الدولة الحربية سيطرة الرجل في الأسرة، ذلك لأن الرجال هم عماد الحروب، وأين منزلة الرجل في حومة الوغى من منزلة المرأة قابعة في عقر دارها؟! ويمقت سبنسر هذا الضرب من الاجتماع الذي تدور حياته حول قطب الحرب، لأن مصلحة الفرد تذوب وتتلاشى في صالح المجموع، ولأن الدولة لا تقوم الا على القتل والسرقة، ونحن إن كنا نصم الإنسان الأول بالوحشية لأنه كان يلتهم لحوم البشر، فما أجدرنا أن نزدري هذه الدول الني تأكل شعوبا بأسرها في وجبة واحدة! ويعتقد سبنسر ان رقي الإنسانية مرهون بإلغاء الحروب، وهو لا يرى سبيلا لتحقيق هذا المثل الأعلى سوى أن تقطع الأمم شوطا بعيدا في الصناعة لأنها تعمل على المساواة والسلام، وهي تقسم السلطة بين أعضاء المجتمع جميعا ولا تركزها في أيدي الحكومة وحدها، وفضلاً عن ذلك فهي تشحذ العقول وتدفعها إلى الابتكار، وهو المعول الهدام الذي يكفل لنا تحطيم التقاليد الوراثية التي تقوي من شوكة الحكومة. . . وستصبح الوطنية في ظل الصناعة حبا للوطن لا كراهية الأوطان الأخرى، ثم إذا اطرد نموها، فستؤدي حتما إلى ازالة الحواجز الجمركية التي تفصل الدول بعضها عن بعض، وعندئذ تورق دوحة السلام وتمتد فروعها حتى يتفيأ ظلها أبناء الإنسانية جميعا. . . وإذا ما خفقت راية السلام وأمحت الحروب، زالت دولة الرجل، ولا يعود له في أسرته سلطة الحجاج التي ينعم بها، ويرتفع قدر المرأة حتى تقف معه كتفا إلى كتف، لتشابه ما يؤديان من عمل، وعندئذ فقط يتحقق تحرير المرأة الذي تنشده.