فما بالك بالجهود التي بذلها سبنسر، وهو لا يريد أن يدرس شعبا بعينه فحسب، بل يقصد إلى دراسة المجتمع الإنساني باسره وكيف تطور كيانه م حالة إلى حالة؟ فهو يرى أن المجتمع كائن عضوي له أعضاء للتغذية وله دورة دموية، وفيه تعاون بين الاعضاء، وله فوق ذلك تناسل وإفراز، شأنه في كل ألوان الحياة شأن الأفراد سواء بسواء. . . فهو ينمو، وكلما ازداد نموه اشتد تعقداً، وكلما تعقد ازدادت أجزاؤه استقلالا. وحياة المجتمع باعتباره كلا طويلة جداً بالنسبة إلى حياة أجزائه التي يتألف منها. والمجتمع كالفرد يتعاوره التكوين والانحلال وهما وجها التطور: فنمو الوحدة السياسية من الاسرة إلى الدولة ثم إلى عصبة الامم، ونمو الوحدة الاقتصادية من الصناعة المنزلية الصغيرة إلى نظام الشركات ثم إلى الاحتكار، ونمو وحدة السكان من القرية إلى المدينة. . . كل هذه ظواهر للتجمع والتكوين، ولكنك من جهة أخرى ترى تقسيم العمل وتعدد المهن والصناعات، وتنوع الانتاج بين الريف والمدن، وبين أمة وأمة. . . وهي دلائل تشير إلى التنوع والتنافر. . وتستطيع كذلك أن تلمس التطور بشطريه - تآلف الأجزاء في وحدة، ثم تنافرها داخل تلك الوحدة - في كل جانب من جوانب المجتمع: في الدين والحكومة والعلم والفن وغيرها.
فقد كان الدين أول الأمر عبادة طائفة من الآلهة والأرواح، فأخذت هذه تتجمع وتأتلف حتى تركزت في إله واحد. . ثم عاد التوحيد فتفرع إلى جملة من الأديان وطائفة من العقائد، ولم يتحور الدين في شكله فقط، بل تبدل موقعه من النفوس كذلك. فقد كان الجمهور الذي تدور حوله رحى الحياة بأسرها، ذلك لأنه ألقى في روع الإنسان الأول ان هذه الحياة الدنيا غرور ولهو، ويجب أن يربأ بنفسه أن تنغمس في حمأتها أو تتلوث بأدرانها ولتكن الآخرة وحدها محطا لآماله ومعقداً لأمانيه فهي خير من الأولى وأبقى، ولكن ما لبثت وجهة النظر أن تطورت، وتوجه الإنسان بشطر من عنايته نحو هذه الحياة التي يعيش فيها. وأخذت تلك العناية تزداد شيئا فشيئا كلما اتسع نطاق العمل الصناعي.
أما نظام المجتمع فلعل أبلغ ما طرأ عليه من تغيير، هو الانتقال التدريجي من النظام الحربي الذي ساد أوربا إبان العصور الوسطى إلى النظام الاقتصادي الصناعي، ويتقد سبنسر أن تقسيم الحكومات إلى ملكية وأرستقراطية وديموقراطية وما إلى ذلك، ان هو الا