ولما فرغنا وامتلأت بطوننا، حسبت المجلس سينفض، وأن القوم قد طعموا فلابد أن يتسروا، فإذا المجلس يبدأ، وإذا الشيخ سعدي يقدم المقدمات. . . ويتحدث عن الغناء والطرب، فما ظننت والله إلا أنه سيغني. ولقد سمعته حين أذن فسمعت صوتاً حلواً ورنة عذبة، ولكنى وجدته يشير إلى شاب ما فتح منذ الليلة فمه ولا تكلم بكلمة، فظننته يمزح وقلت إحدى هناته والله؛ غير أنه بالغ في إطراء الشاب وشاركه في ذلك من اعتمد ذوقه واطمأن إلى حكمه وارتضى فهمه، فشككت ولم أصدق أن يكون في دمشق مغن مجود لا اعرفه، على ولعي بأهل هذا الفن، وعلى صلتي بالأديب الموسيقي الأستاذ حسنى كنعاة لولب أهل الموسيقى. . . وكان أشد ما أخشى منه أن يردد علينا اسطوانات عبد الوهاب وأم كلثوم ويحسبها علينا ليلة طرب، وتمنيت لو ارتجل ارتجالاً ولم يجاوز أنغامنا العربية إلى أنغام لا نألفها ولا نحبها، ولا يدعى محبتها إلا قوم يراءون بالطرب منها حتى يقال إنهم متمدنون وأن لهم بموسيقى أوربة بصراً، ولست بحمد الله من هؤلاء. . .
وما لبث الشاب أن غنى، فإذا صوت تمنيت والله أن يكون لي علم الأستاذ محمد السيد المويلحي لأصفه لقراء الرسالة كما يصف هو، فأقيسه ب ـ (الكونترالتو) الذي لا أعرف اهو شيء مأكول أم ملموس، وب ـ (الميزو سبرانو) الذي لا أدري أهو حيوان أم نبات أم جماد أم هو شيطان من شياطين الموسيقى؟ ولكني وا حسرتا جاهل بهذا الفن، وليس عندنا في دمشق مويلحي آخر يخلد ذكر هؤلاء النابغين المغمورين المساكين في الرسالة!
أفيصح أن أصفه كما اعرف؟
بدأ بـ (يا ليل) بصوت ناعم حلو، فأطربني صوته، وأعجبني نغمته، ولم أعب عليه إلا خفوته ونعومته؛ وصحت وأنا رجل طروب، وصفقت، فقال لي القوم: انتظر إنك لم تسمع شيئاً. وانتظرت فإذا هو يدور بالنغمة دورة، فإذا له صوت قوي وضخم ولكنه واطئ كقرار عبد الوهاب؛ وإن كانت له قوة صوت صالح عبد الحي أو الشيخ صبحي الأمام في الشام، ثم يعلو به ويعلو، حتى يرتفع ارتفاعاً هائلاً، وهو لا يزال على قوت ورجولته، فبالغت في الإعجاب وهزني الطرب، فقالوا انتظر، أن بعد هذا لشيئاً، فسكت انتظر وما أظن أن بعد هذا شيئاً يكون، فإذا الشاب (عادل القربي) يقفز من هذا العلو إلى طبقة أعلى وأرفع، وإذا