له صوت صبيّ برقته وحدته وصفائه، فاستخفى والله الطرب، حتى هممت لولا الحياء أن أقوم له فالتزمه وأقبله، وتركنا في هذا الأفق السامي، وهبط بآهة من آهاته إلى القرار، ثم تهاوت آهته واختفت حتى لقد سمعت الهاء الساكنة ينطق بها قلبه. . . ثم سكت سكتة، فلا والله ما ظننا إلا أن الدنيا قد دارت بنا، وثارت في نفوسنا عواصف من العواطف الدفينة، والذكر الكامنة لا يعلمها إلا الله، وكانت لحظة صمت وخشوع، آمنت فيها بما تفعل الموسيقى. . . ثم انتبه القوم فزلزل المكان بالتصفيق والهتاف. . .
ثم عاد ينادي هذا الليل الأصم:(يا ليل - يا ليل) والليل يصغي ويطرب، ولكنه لا ينطق فيجيب. (يا ليل - يا ليل) كم ذا يهتفون باسمك وأنت صامت! (يا ليل - يا ليل) يا ملجأ البائسين، يا سمير العاشقين، يا حبيب المتعبد الناسك، يا عدو المريض المتألم الحزين! (يا ليل) كم يخفى ظلامك من مشاهد البؤس ومظاهر النعيم (يا ليل) كم تضم أحشاؤك من الآم وآمال! كم تشهد من أفراح وأتراح! (يا ليل) كم يتمنى بقاءك سعيد جذلان، وكم يرقب فجرك ضائق حزنان (يا ليل - يا ليل) كم بين جوانبك من ساهر يراقب النجم يرقب حبيباً لن يعود أبداً. أو يناجي ميتاً لا يسمع، أو يحنو على مريض لا يشفى، أو يشكو والحياة لا تسمع شكاة (يا ليل) يا رمز السرمدية، يا حليف المسرات، يا قرين الآلام!
امتلأت نفسي شجناً، وأحيت هذه (الليالي) ليالي الخاليات وملك نفسي شعور أعهده منها كلما سمعت الصبايا لسحر الصبا. . . ومضى الشاب يقلب الأنغام فيتلاعب بالقلوب والمشاعر. ثم كرّ كرة فجاء بنغمة متقطعة مرقصة. . . وأتى بدور يترع النفوس فرحاً، واضطر القوم كلهم أن يرددوا كلمات منه بصوت منخفض يخالطه صوته الدقيق العالي فيكون منه اتساق (آرموني) موسيقى عجيب، وعاد المرح إلى المجلس، وسقط الوقار عن أوقر أهله فعلمت أن موسيقانا ليست كلها بكاء وألماً ولكن فيها المرقص المطرب، وكان الشيخ سعدي لا يدخر سكتة بين نغمتين إلا أحكم المرمى وقذف بنكتة من نكته التي لا ينفد معينها. وزلزل المجلس بأهله من الضحك والغناء، حتى لقد حسبت الدنيا ترقص معنا. ثم حط الغناء على أنشودتنا الشعبية الخالدة (يا ميجنا - يا ميجنا) تلك التي تصور بمعانيها النفس الشامية، وتمثل بصورها طبيعة بلادنا وجمال ديارنا، وهي رمز عبقريتنا الشعبي ومجال الابتكار، ومحك القريحة؛ فهي ترتجل أبداً ارتجالاً وتعقد لها المجالس، ويقوم