بهذين الوصفين أناساً ليسوا أهلاً لهما فيعدلون بذلك عن الحق، ويصيبهم من هذا رضاء موصوفيهم، وعندما يرضى الإنسان يجود على الذي أرضاه ووصفه بغير الحق، فالعدول عن الحق في القاهرة نفع فيه خير
والذي يتجول في أحياء الإسكندرية لا في القاهرة المصطافة المتهتكة عند الشاطئ، لا يفتأ يسمع كلمة (صايع) تُردد مع خطاه. فالخلاف على الرزق في الإسكندرية كثير بحكم أنها بلد صيد وبيع وشراء وكفاح، ولكن هذا الخلاف صريح مكشوف لأنه نما وترعرع مع الأجيال، والخلاف لا يمكن أن ينمو وأن يتضخم وأن يظل مع نموه وتضخمه مكتوماً مستوراً، فإذا انكشف لم يكن غير معركة، والناس لا يستطيعون أن يتعاركوا ليلاً ونهاراً، فهم يعدلون عن العراك أحياناً إلى السب والتعبير، فإذا كثر سبهم بوصف من الأوصاف، كان ذلك دليلاً على أن هذا الوصف هو أبلغ السب عندهم، وأبلغ السب يكون بنعت المشتوم بأقبح النعوت في رأي الجمهور وأكره ما يكرهون، (فالصياعة) أذاً هي أكره ما يكره أهل الإسكندرية وضدها هو أحب ما يحبونه، وهو أن يكون الإنسان عاملاً
والعمل في الإسكندرية بطولة. لأن الناس محتاجون إليه فهم يقظون، عيونهم مفتحة، متصارعون عليه في لهفة واستماتة وإجادة، فإنه إذا لم يكن العامل قوياً خر في الميدان. وهذه البطولة لها قيود كان لا بد منها لأمان المجتمع، فإنها لو تحررت يسعى إليها كل إنسان بطريقته هو فاستباح بعض الناس الحرام، وأكلوا جهود غيرهم. وكل مجتمع تكونه الطبيعة يصنع قوانينه وقيوده بنفسه لأنها من أسباب حياته، ويحرص كل الحرص على صيانتها، ويثور كل الثورة على من يهم بخدشها. وقيود البطولة في الإسكندرية هي القوة الصريحة في العمل الجد.
فإذا انحدرنا إلى القاهرة سمعنا رتبة (البيك)، والوصف بالوجاهة ينعم بهما على كل من هب ودب حتى نحن. ومعنى هذا أن أهل القاهرة جميعاً يحبون أن يكونوا (بكوات) ووجهاء هكذا ويأكلون ويشربون من حيث يعلم الله ولا يعلم الناس.
وهم في هذا كما يكره أهل الإسكندرية أن يكون الواحد منهم هكذا
وهذه حال تستلزم أن نتنزع لها من الطبيعة قوانين تصونها، كما أنها تستلزم أن يكافح الجموع من أجلها، وأن يقاوم الخارج عليها الذي يهم بخدشها، والقانون الذي تلتزمه