هذا هو ما يختص بظهور الفن في كل من الإسكندرية والقاهرة. . . فما هي طبيعة فن الإسكندرية، وما هي طبيعة فن القاهرة؟
طبع الفن في الإسكندرية يشبه طبعها، وطبع الفن في القاهرة يشبه طبعها، وأصدق الفن في الإسكندرية ما كان صدقاً، وأصدق الفن في القاهرة ما كان غشاً وكذباً!
الإسكندرية تعاشر البحر في كنف الصحراء. . . وكل منهما مكشوف. وفيها منهما. والقاهرة يحتضنها جبل أغبر ليته ما كان فانطلقت صحراوية خالصة، وانكشف عنها هذا الرجم الثقيل الجاثم على صدرها وعينيها. . . فربما كانت تسمع وترى وتعي!. . .
لقد طبع البحر الإسكندرية وأهلها وفنها. فالأدب فيها نقد عنيف قاس يشبه أن يكون إعصار، فإذا رق فهو إخلاص البحر واستسلامه على جبروته وعظمته، والموسيقى فيها صفاء وصدق ما هدأت أو ثارت. والرسم فيها هو هذه الصور التي تعرض البحر وطيره وسمكه، والصيد ومراكبه ورجاله، وهي التي نرى فيها من نشاط الإسكندرية وتوثبها ما يميزها من غيرها. . .
وفن الإسكندرية فيه من روح أوربا أنقاها لا البراق الباطل منها، وذلك لاختلاط المصريين فيها بالأجانب اختلاطاً لا يشبه اختلاطهم بهم في القاهرة، فالأجانب في القاهرة يكادون يعيشون في أحياء خاصة، فيها بيوتهم ومتاجرهم وملاهيهم، أما في الإسكندرية فهم منبثون في أنحائها جميعاً يتخللون الوطنيين، ويعاشرونهم كأنهم منهم، وقد لا يشعر الأجنبي في الإسكندرية بالغربة، كما أن الوطني لا يشعر فيها بغرابة الأجنبي، وهذا راجع إلى أن الإسكندرية تصبغ سكانها جميعاً بصبغتها، وأنها تعدهم جميعاً لنوع واحد من الحياة يتعاون فيه سكانها. وقد يعجب القارئ إذا قلت له إني سمعت روميا يلعن روميا آخر ويلعن الباخرة التي قذفت به في بر مصر، وهذا لا يمكن أن يصدر إلا من وطني يغار على بلده ولا يريد أن ينهال عليها إلا من هو جدير بالحياة فيها، ولا يحابي في هذا من كان من وطنه الأول أو من كان من أهل البلاد نفسها. والأجانب في الإسكندرية كثيرون، وهم كما يعطونها أرواحهم يعطونها تفكيرهم، وإحساسهم، فيأخذ عنهم الوطنيون ألواناً من أساليب العرض الفني، كما يتعلمون منهم أشياء رقت بهم على المصريين وجودت فنونهم