للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العاملين رأس مال. ولا يمكن أن يحترف الفن في الإسكندرية إلا الفنان الصادق، ومتى ظهر صدقه في فنه وتمكنه منه، أقبل عليه الناس وشجعوه، ولكن إلى أن يظهر هذا الصدق، ويجوز رضاء أهل الإسكندرية، ثم يكون له بعد ذلك تعصبهم البلدي يذوق فنان الإسكندرية الأمرين من نقدهم القاسي الصريح الذي لا يمكن التغلب عليه إلا بعزم من فولاذ، وأكثر الناس تعرضاً لهذا النقد وهذا التهشيم هم أصحاب الفنون الجميلة، التي لا يأكلها الناس ولا يشربونها، فإذا لم تكن فنونهم إلهاماً من الله يهبط على الجمهور من خلال أرواحهم، فإن كل ما فيه من صنعة يتعرض للنقد، والصنعة ينفسح المجال في نقدها للعالمين والجاهلين، ما دام الأمر في النقد راجعاً إلى المنطق والحجج والبراهين والكلام، وما دام الأمر في هذا كله راجعاً إلى وجهات النظر الفردية. . . على العكس من إلهام الله وهو الحق الذي لا مراء فيه. والفن الملهم هو باعث الحق في الحس، والناس إذا أحسوا الحق لم ينكروه إلا كما ينكر المحروق شيّ النار.

ومع أن الفن الملهم هذا قد يسرع إلى أن يكون حرفة في الإسكندرية لإسراع الناس فيها إلى العمل والإنتاج بحكم الحاجة، فإنه لم يكن إلى اليوم فيها تجارة مثلما أصبح في القاهرة على أيدي إخواننا السوريين الذين تأصلت فيهم طبيعة التجارة منذ كان أجدادهم الفينيقيون يحملون لواءها في العالم القديم ووجدوا في القاهرة المتسترة ميدانهم. . . فأهل الإسكندرية صيادون يبيعون ما يجود الله به عليهم من سمك أو فن، ولكنهم لا يستطيعون تلفيق السمك ولا يستطيعون تلفيق الفن، كما أنهم لا يعرفون الإعلان عما عندهم إلا بعرضه، كما أنهم لا يوقتون مواسمه ولا ينظمونه، فالطبيعة هي التي توقته لهم وتنوعه، فأيام الصفاء لها سمك ولها فن، وأيام النوء لها سمك آخر ولها فن آخر. وما أكثر تقلبات البحر الذي يجود بالسمك! وما أكثر تقلبات الحياة التي تجود بالفن! وما أكثر تلون الصروف التي تجود بما بين السمك والفن. . .

أما القاهرة فكان من نتائج الاتجار بالفن فيها أن أصبح له أسواق منها شارع عماد الدين، كما أن للخردوات فيها أسواقاً منها شارع الموسكي. والأسواقيتسلل إليها السماسرة، ومتى دخل السماسرة دخل الزيف والبهرج اللذان لا صلة لهما بالفن وإن كانت لهما صلة بما هو دونه

<<  <  ج:
ص:  >  >>