غادرت أمه الوجود، هذه الأم التي كانت كلما ازدادت عمرا، ازدادت عطفاً على ولدها. كتبت له في كتابها الأخير (لا يوجد ولد - كمثلك - في الوجود) وأخذت صورة ولدها قبل أن يغتالها الموت وضمتها إلى صدرها ضماً شديداً، وأشبعتها لثماً وتقبيلاً، وماتت يشرف على قبرها صليب حجري نقش عليه هذه الكلمة (أم شيللر)
أما الشاعر فقد تسرب إليه اليأس، وزادت عليه الأسقام حتى خرب صدره وخارت قواه وفسدت رئته. وهو_برغم ذلك_يريد أن يغلب على هذه المحن ناظراً إلى غده الزاهي. ولكن المرض المبرح ضن عليه بكل شيء حتى بنعمة الأمل. ففي شتاء عام ١٨٠٥ استسلم للألم صامتاً راضياً هادئاً. ولكن ثورة الشك في اللحظات الأخيرة طغت على نفسه وروحه، أقلقها تساؤلها عن العالم الثاني، سمعه بعض عواده في أغرأقة من إغراقات الحمى يهتف (أهنالك جحيمك؟ أهنالك سماؤك؟ ولكن السكون المغمور بالملل والتعب غلب عليه فاستسلم، وما الموت إلا استسلام، وفي الأمسية الأخيرة سألته أخته القائمة على سريره (والآن كيف أراك؟ فأجابها بصوت خافت: (أراني دائما أكثر هدوءاً) فكانت هذه الجملة هي آخر ما لفظت شفتاه، ثم سكنت ملامحه، وارتعش رأسه ارتعاشة واحدة، ثم سكن منه كل شيء وهو في الخامسة والأربعين.
ما كان أقدس هذه الكلمة؟ وما كان أكبرها باعثا للهدوء في النفوس المضطربة. ولكننا لا نعلم: أهو هدوء الإيمان، أم هدوء الملل والقنوط.