للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على أن الناس في إيطاليا وغير إيطاليا ما عتموا أن أدركوا أنهم كانوا تلقاء فجر كاذب، فلقد راح أرباب العروش وأقطاب السياسة يعدون الأغلال والسلاسل بدعوى القضاء على عوامل الفوضى والضرب على أيدي الخارجين على حكامهم الشرعيين؛ وهبط الليل، وانحسرت الموجة العاتية التي انبعثت من فرنسا، ولكن لتتجمع فتتلاطم فتندفع فتحطم الجسور وتجرف السدود.

ويستمع الصبي إلى هذه الأنباء في بيته حيث كان يلتقي خلان أبيه، فلا يفهم منها إلا بمقدار ما يسع عقله الصغير؛ ولكنه كان صبياً قوي الخيال منذ حداثته، وعصر الطفولة هو عصر الخيال الخصب، هو ذلك العصر الذي يخيل إلى كل طفل فيه أنه قادر على أن يكون بطلاً ككل من يسمع سيرهم من الأبطال؛ ولذلك تحرك خيال الصبي أكثر مما تحرك عقله، وامتلأ لا ريب بشتى الصور عن ذلك القورسيقي الإيطالي المولد الذي جاب البلاد قاصيها ودانيها فاتحاً ظافراً ليستقر آخر الأمر أسيراً في جزيرة إيطالية. وما الذي هزم ذلك الجبار وأنزله من عليائه؟ ذلك ما يتساءل عنه الصبي. وماذا يعني أبوه بقوله اتحاد الشعوب ضده؟ ولكن خياله القوي لا يلبث أن يسعفه بالجواب، فهو وخلانه الصغار إذا اتحدوا على صبي كبير فإنهم يخيفونه ويهزمونه؟ وهكذا يتعلم زعيم الغد أول درس من دروس الجهاد ويفطن إلى أول عدة من عدد القوة.

ويحار الصبي أحياناً بين مادحي ذلك الجبار وبين قادحيه؛ ولئن استطاع أن يدرك أنه يبغض لأنه كان مستبداً يفرض إرادته على الشعوب، فما يقوى عقله الصغير على متابعة الذين يمدحونه والذين يسندون إليه أنه خطا بإيطاليا خطوات واسعة نحو الاتحاد فقضى على حكم البربون وحكم البابا، وأشاع في البلاد على رغم خضوعها له شعور القومية والوحدة. لا يستطيع الصبي أن يفهم ذلك جلياً، وإن كان خياله لا يتقاصر عن تصور الوحدة ولو في أبسط صورها؛ وأنه ليدين لهذا الخيال بالكثير مما يتعلم في هذه السن. وهل يفلت من الخيال في غد يوم يكون شاباً مثقفاً أو كهلاً مجرباً؟ كلا. فلسوف يكون الخيال من أعظم أسباب قوته ومن اشد دعائم إيمانه ومن أبرز خصائصه؛ وإن كان بعض دارسيه يعيبونه عليه وينكرون إسرافه فيه، وهم لو أنصفوا لرأوا فيه عنوان محامده. وكم كان للخيال من فضل على كثير غيره من العظماء!

<<  <  ج:
ص:  >  >>