ويظل النيل خمسين يوماً ينُعم على الناس ببركاته. وعندما يعود إلى مرقده الآمن بين شاطئيه اللذين أنشأهما لنفسه، يحجب ظاهره بطبقة غنية من الطمى الأسود تستمد منها الحياة فواكه الربيع وزهوره وحبوبه، فينعم بها الناس إلى العام المقبل حيث يعود إليهم مرة أخرى بهدايا مائه الغالي. أما في نظر الذين تمطر في بلادهم الدنيا في الربيع والصيف والخريف، ويتساقط البرد في الشتاء، وفي أرضهم الماء غير منقطع، فإن الفيضان بالنسبة لهم إخلال بنظام الطبيعة ونكبة على الجنس الإنساني، لأنهم لا ينتظرون ولا يريدون المفاجأة التي تجلب لهم النكبات والخسائر، وتهلك محاصيلهم وتكتسح مساكنهم
لكن أبانا النيل لم يكن بالضيف غير المرحب به على هذا الاعتبار بالنسبة لأرض مصر التي لفحتها الحرارة فلو أتى فيضانه مرة في كل عام بمقدار أربعين قدماً لأصبحت البلاد صحراء كالصحاري المجاورة لها. فلا عجب إذن في تقديس المصريين له واعتبارهم إياه أباً عطوفاً مكللاً بالفواكه والورق الأخضر. وتصويرهم إياه وحوله الأرواح السعيدة تلعب في مرح وهي وافرة العدد
ولكن مع كثرة ما يجود به النيل فإنه يعم جميع البلاد، ومع أن مدة الفيضان مطلوبة مهما طالت فإنه يظل كالنائم في مجراه الضيق عشرة أشهر في كل عام. وعندما ينتهي عمل النيل يبدأ عمل الإنسان وقد كان عملاً مجهداً
هذا الماء الغالي الذي يأتي في وقت قصير يجب أن يحتفظ به، من أجل ذلك كان الأرقاء ينشئون ما يشبه أن يكون بحيرة حتى لا يضيع ماء الفيضان بدداً في الرمال. ويجب أن يحمل هذا الماء إلى الدور والحدائق والمزارع التي تخرج عن المنطقة التي ينالها الفيضان. ومن أجل ذلك كان يكلف الأرقاء بحمل هذا الماء في أوان على رؤوسهم
وقد كان الجهد الإنساني رخيصاً في تلك الأيام وكان للملوك والنبلاء في مصر مئات ومئات من العبيد لا يعدونهم أفضل من المواشي: هم آلات إنسانية لم توجد إلا لتؤدي مالا نهاية له من الخدمات لساداتهم. وعلى النقوش المصرية القديمة على الأحجار صفوف وصفوف من العبيد حاملين أواني الماء على رؤوسهم
لكن حتى الأرقاء ومن يعهد إليهم بأن يسوقوا العبيد كانوا أهل ذكاء ولم يكونوا حيوانات تعمل بلا عمل ولا فكر ولا محاولة للتغيير. وفي يوم من الأيام حدث أن رجلاً ذكياً من بين