للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فالتذمر فالثورة

وكان حراماً على الأساتذة أن يجاروا الطلاب في أهوائهم، أو أن يكون فيما يلقونه عليهم ما يحفزهم إلى أيتجهوا الوجهة التي لا ترضاها الحكومات لهم؛ وكانت إدارة الجامعة في جنوة لا تقبل من الطلاب غالباً إلا من تطمئن إلى سلوكه ومن يملك أبوه قدراً معيناً من الثروة لتكون ثروته رهينة لدى الحكومة متى شاءت؛ وحسبك أنها كانت تحتم على الطلاب أن يحلقوا شواربهم لأن الشوارب عندها كانت من علامات التمرد والنزوع إلى الأفكار الثورية! ومن خالف ذلك حمل على رغمه إلى أقرب حلاق حيث يقضي على شاربه في غير رفق، ولا ندري كم مرة حمل فيها مازيني على هذه الصورة المضحكة!

وكانت له وهو لا يزال في الجامعة الزعامة على الطلاب جميعاً؛ وهو بذلك يقدم البرهان العملي على أن الزعيم الشعبي يولد وفيه صفات الزعامة، فما يزال زعيماً في كل مراحل حياته حتى تتناهى إليه كبرى الزعامات فيصبح في أمته الرجل الذي يعمل بوحيه الرجال أرادوا ذلك أو لم يريدوا

كان وسط إخوانه جاداً لا يعرف صغار الأمور، عزوفاً بطبعه عن اللهو وإن كان يحب الرياضة البدنية ويجعل لها بعض وقته، فإذا كان لا بد من المزاح فهو مزاح الأديب الفطن، الذي يحلق ولا يسف، والذي تعذب روحه دون أن يبتذل شخصه. وكان له إلى الموسيقى ميل شديد ولكن على أنها شيء تسمو بها النفس وتستيقظ عليه الروح، أما أن تكون ملهاة أو مدعاة إلى المجون والعبث فذلك ما كان ينفر منه أشد النفور

وكان شخصه أبداً يوحي إلى من حوله معاني الاحترام؛ فصفاء ذهنه وحدة تفكيره يمليان على المتحدث أن يفكر فيما يقول، وقوة خلقه وترفعه عن الدنايا تحول بين الكلمة النابية على لسان غيره وبين الإعلان؛ وإنه ليحمي الضعيف وينتصر للمظلوم، ويدافع عن الحق في كل ما يعرض له من الأمور؛ ثم إنه ليواسي البائس ويعزي المحزون، ويمد الفقير بما تملك يداه من نقود وكتب وملابس. ولسوف تكبر معه تلك الصفات وتنتقل من مجال الجامعة إلى مجال إيطاليا كلها يوم ينفخ فيها من روحه فيبعث في أرجائها الحياة والأمل

وكانت القراءة أحب هوية إلى نفسه منذ حداثته، فكان يكب على ما يقع في يده من الكتب فما يدعها حتى يأتي عليها؛ ثم اتفق وبعض خلانه على تأليف جماعة للقراءة والدرس.

<<  <  ج:
ص:  >  >>