منتصف القرن الثالث للهجرة. وكان يزورني كل أسبوع ومعه طائفة جميلة رائعة من الغنائم التي كان يكسبها في هذه الحرب الشاقة المتصلة، فأقاسمه سعادته بالظفر، واغتباطه بالفوز.
ولست أحب أن تقدر أني أعمد في هذا الكلام إلى ضروب المجاز وألوان التمثيل لأزين القول وأنمقه، ولكني أحب أن تستيقن أني إنما أقول الحقخالصاً من كل زينة، بريئاً من كل تنميق. فقد كان تأليف هذا الكتاب حرباً عنيفة طويلة مملة بين المؤلف وبين الغموض والإبهام. وكان المؤلف كلما تقدم خطوة وقف ينظم انتصاره، ويصوغ ثمراته هذه الصيغة الجميلة التي ستراها في فصول هذا الكتاب ويتأهب في الوقت نفسه لهجمة أخرى يكسب بها موقعة أخرى، وينتصر بها انتصارا جديداً.
ومع أن المؤلف قد أنفق جهداً قوياً في أن يجنبك مشاركته فيما كان يحتمل من عناء، ويلقى من مشقة، ويذوق من مرارة الصبر والمصابرة، ومطاولة المسائل المعضلة التي كانت تعرض له. فأنت واجد أثر هذا كله في فصول الكتاب، حين ترى المؤلف يسير في أناة تشبه البطء، ويعرض عليك جزئيات ضئيلة، تشبه أن تكون إغراقاً في التفصيل، وتقليداً للجاحظ في حب الأستطراد، ولكن إثْبُتْ لهذا البطء، واصبر لهذا التفصيل، وامض مع الكاتب في رفق وأناة فسترى أن نتيجة هذا الثبات والصبر والرفق أقوم جداً مما كنت تظن، وأنفس جداً مما كنت تنتظر، وأن الكاتب لم يتورط فيها تورطاً، وإنما قصد إليها قصداً، وتعمدها تعمداً. لأنه لم يكن يستطيع أن يعدل عنها حتى يضحي بالأمانة العلمية، والتحقيق الذي يفرضه البحث الحديث فرضاً على العلماء. ولا تَخَفْ من هذا البطء، ولا تشفق من هذه المطاولة، فلن يعترضك ملل، ولن يفل من حدك سأم، ولن تضيق بالكتاب لحظة، فقد عرف الكاتب كيف يهون عليك طول الطريق إلى غايتك، وكيف يبث أمامك في هذه الطريق من الزهر ما يستهوي عينك، وكيف ينشر حولك في هذه الطريق من الأصداء الحلوة ما يخلب أذنك. وأنا زعيم بأنك ستحتاج إلى أن تعيد قراءة بعض الصحف وبعض الفصول، وسترى أن الكاتب على إبطائه وأناته مسرع مسرف في السرعة بعض الأحيان.
أشهد لقد وفق (أحمد أمين) في هذا الكتاب إلى الإجادة العلمية والفنية معاً: أستكشف الحياة العقلية الإسلامية استكشافا لم يُسْبَقْ إليه، ثم عرضها عرضاً هو أبعد شيء عن جفاء العلم