على اختلاف الأجناس والبيئات والأمزجة، يدل على طبيعة الزواج الذي كان يكون بين هؤلاء الناس فيخلط دماءهم خلطاً، أو قل يمزجها مزجاً، يدل على طبيعة الرق الذي محا الشخصيات الفردية والاجتماعية لكثير من الأفراد والأمم، وصهرها كلها في مرجل واحد هو الدولة الإسلامية، فكون منها شخصية جديدة كل الجدة، طريفة كل الطرافة، هي شخصية الأمة الإسلامية.
نعم ويدل على هذه الطبقات التي كان يتألف منها الجسم الاجتماعي، للأمة الإسلامية، والتي كانت تتقسم فيما بينها الأعمال الكثيرة المختلفة، التي يحتاج إليها هذا الجسم لا ليحيا فحسب، بل ليرفه هذه الحياة ويرقيها، ويأخذ فيها بأعظم حظ ممكن من الترف المادي والعقلي والشعوري جميعاً.
وإذا ذكرنا الثقافة اليونانية، فلن نفهم منها منذ اليوم هذا المعنى المبهم الذي نرمز إليه بالفلسفة أحياناً، ولكنا سنعرف بالضبط مقدار ما أخذ العرب عن اليونان، وكيف أخذوه، ومن أين أخذوه، وكيف أساغوه أولاً، ثم تمثلوه بعد ذلك؟. وقل مثل هذا في الثقافة الهندية والفارسية، أستغفرالله بل خيراً من هذا، قل أكثر جداً من هذا فما أعلم أن باحثاً عن تاريخ الأدب العربي وفق إلى تحقيق الصلة بين العرب والهند، أو بين العرب والفرس إلى مثل ما وفق إليه (أحمد أمين) وهو (بعد هذا كله) أول من بسط هذا في اللغة العربية بسطاً يطمئن إليه الباحث الذي يسلك إلى بحثه طريق الجد والصدق، لا طريق العبث والتضليل.
وإذا ذكرنا الثقافة المسيحية والثقافة اليهودية، فلن نفهم منهما منذ اليوم ما كنا نفهمه من قبل، من أن اتصال المسلمين باليهود والنصارى قد أحدث بين أولئك وهؤلاء ضروباً من التأثير العقلي العام.
ولكننا سنعرف طبيعة هذا التأثير ومقداره ومصدره، ثم سنضع أيدينا على مظاهر هذه الحياة الجديدة، فيما أنتج المسلمون من أدب وعلم وفن.
أستطيع أن أقول إن (أحمد أمين) حينما انتدب لتأليف هذا الكتاب قد أتخذ لأمة المحارب، ووضع أمام عينيه غرضاً أقسم ليبلغنه، أو ليعدلن عن إظهار الكتاب. وهذا الغرض: هو تخليص الحياة العقلية الإسلامية في القرن الثاني من الغموض والإبهام، وما زال بهذا الغموض والإبهام حتى أجلاهما عن موقفهما، وانتزع منهما حياة المسلمين العقلية إلى