منذ خمسمائة عام كان يقيم في قرية الكماد، وهي قرية صغيرة في شمال هولاندا، رجل اسمه فلورنت الكماد وهو غني من أهل تلك المدينة يشتغل بالحدادة فضلاً عن كونه مزارعاً موسراً يملك أرضاً واسعة.
ولم تكن الزراعة من الأعمال السهلة في ذلك العهد بهولاندا وما جاورها من الأراضي المنخفضة ولم تكن الحياة فيها سهلة هناك منذ العهد الذي نزل فيه السكسونيون والهمج من الغريزيان إلى تلك الأراضي ذات المستنقعات التي أطلقوا عليها اسم الأراضي المنخفضة، وأرادوا أن يتخذوا منها وطناً.
وربما كانت القوة والعزيمة اللتان امتاز بهما أهل هذه البلاد في تاريخهم كله - ربما كانت هذه القوة وليدة اضطرارهم للمحاربة الدائمة ضد الريح وضد الماء اللذين تتوقف على محاربتهما حياة هذه البلدة الصغيرة. وما كان في وسع شعب غير جريء وغير مثابر أن يستولي على أرض رملية أنهارها دائمة الفيضان وبحرها دائم الطغيان فيجعل ذلك الشعب منها بلاداً زراعية خصبة.
ويعلم كل إنسان قصة المرافئ الهولاندية وهي تلك الحواجز المنيعة المصنوعة من الأحجار والتي مهمتها منع البحر من الطغيان على الأرض التي ينخفض جزء كبير من شاطئها عن مستواه.
بنى الكبريون والغريزان هذه المرافئ حين عسكروا على أكثر أجزائها ارتفاعاً وقاية لأنفسهم من الماء. وزاد أهل الأجيال التالية من تلك الحواجز إلى أن جاء عهد فلورنت الكماد فأصبحت الأنهار والبحر تحت نوع من الرقابة يمكن للمقيم بالبلاد من الاطمئنان على السلامة والراحة عند الشاطئ المحصن.
ولكن بينما البحر محصور كانت الأنهار لا تزال تفيض على الشاطئين فتحدث خطاً طويلاً من مستنقعات دائمة، فبدلاً من أن يكون على الشاطئين مزارع خضراء وحقول خصبة تنبت الحب كان حولها مستنقعات واسعة كثيرة السبخ. وكما كانت مصر في عهد الفراعنة تشكو من قلة الماء، فكذلك كانت هولاندا في بداية تاريخها تشكو من كثرة ما يغمرها من الماء.
ولم يكن فلورنت دائم الإقامة في قريته الصغيرة فقد كان يسافر من أجل عمله ولا تقتصر