فكذلك صنع ناشرو عيون الأخبار في الإشارة إلى موسى ابن عمران في خبر جاء فيه أن سهل بن هرون بعث إليه أبياتاً يعبث فيها بأبي الهذيل العلاف، إذ خلطوا بينه وبين موسى ابن عمران (النبي عليه السلام).
وإنما موسى بن عمران هذا هو بعينه الذي يذكر كثيراً باسم (مويس بن عمران)، وقد ذكره المرتضى في الطبقة السادسة من طبقات المعتزلة، وكثير من أخباره وآرائه في الانتصار لأبي الحسين الخياط، والملل والنحل لشهرستاني، والاغاني لأبي فرج، وأخبار أبي نواس لابن منظور. كما يردد الجاحظ اسمه كثيراً في كتبه كالحيوان والبخلاء والبيان والتبيين.
٣ - وأما الموضع الثالث فأعجب عجباً وأغرب غرابة، والخلط فيه من طراز بدع جديد.
لعل كثيراً من المتأدبين يذكرون قصيدة سويد بن أبي كاهل التي يقول فيها:
رب من أنضجت غيظاً قلبه ... قد تمنى لي موتاً لم يطَع
وقد جاء فيها هذا البيت يذكر ذلك المغيظ الذي أنضج الغيظ قلبه:
مزبداً يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع
وكنا نفهم - بكل بساطة - أنه يمثل صاحبه في هذا البيت بالجمل الهائج يخطر في مشيه ويضرب بذنبه وقد علا الزبد شدقيه، وقد غفلنا - ونستغفر الله الذي تفرد بالعصمة - أن فوق كل ذي علم عليما. فقد أبى أصحابنا الناشرون إلا أن (مزبدا) في هذا البيت ليس على ما خيل إلينا وإنما هو. . . (مزبد) المدني صاحب النوادر! هكذا والله صنع القوم. فقد أشاروا إلى هذا البيت في فهرس الإعلام ضمن ما أشاروا إليه من النصوص التي ورد فيها (مزبد) هذا وأحالوا الباحثين عليها.
وبعد فإن هذه التخليطات الغليظة تكاد تهدم الثقة بدار الكتب ونشراتها جميعاً، لولا ما نراه فيها كثيراً من آيات الجهد الجاهد في التحرير والضبط، والبراعة العظيمة في التصحيح والتخريج. فنتساءل مع شيخنا الجاحظ: كيف تصبر البعيد الغامض، وتغبى عن القريب الجليل!