ننشده في كل عام. وكل الفارق بيننا وبين قائليه الأولين أنهم كانوا يرددونه وفي أيديهم السيوف ونحن نرتله وفي أيدينا المسابح، وأنهم كانوا يرددونه وهم يمشون إلى القتال ونحن نقوله ونحن سائرون إلى الديار لشرب مرق الأضاحي التي أمرنا بذبحها للفقراء فذبحناها لنأكلها نحن هنيئاً مريئاً، وأنهم كانوا يرتلونه وتنبض قلوبهم بشعور حي لأنهم يفهمون لكلمة (وهزم الأحزاب وحده) معنى غير الذي نفهمه نحن. . . هم يفهمون أن الأحزاب هم فلان وفلان الذين رأوهم في يوم كذا من شهر كذا يذبحون فلاناً وفلاناً من أقاربهم وقد هزمهم الله بأن مات منهم فلان وفلان وأسر منهم فلان وفلان وأسلم منهم فلان وفلان.
(وهزم الأحزاب وحده) كلمة بليغة نقولها نحن، ونغمة شجية نطرب لها نحن، ولكنها غير مشفوعة في خيالنا بالصورة الواضحة التي يترسمها القائل المجاهد، وغير مشفوعة في مشاعرنا بذكريات الأرحام الممزقة، والمودات التي استحالت إلى عداوة، والعداوات التي استحالت إلى أخوة.
ألفاظ نقولها ونغمة نعيها ونفهم معاني كل كلمة فيها ونعي النغمة أيضاً، ولكننا بعد ذلك لا نفهمها الفهم الكامل لأنها لا تستثير في نفوسنا ذكريات حية واشجة بحياتنا الشخصية ولا تعرض على خيالنا صوراً رأينا مثلها بالحس:
صدق وعده ... ونصر جنده
وهزم الأحزاب ... وحده
نفهم كل حرف من هذا ولكننا لم نر النبي كما رأوه وهو يرتعد ويقول: اللهم وعدك الذي وعدتني. ولم نسمع أبا بكر يجيبه كما سمعوه حين أجابه وهو يقول: إن الله منجزك ما وعدك. فالألفاظ واحدة ولكنها أدت لدى الكثرة منا معاني فحسب، وأدت لدى من قالوها لأول مرة معاني وصوراً وانفعالات. بل لو شئنا لقلنا إنها أطلقت من غددهم إفرازات اختلطت بدمائهم فكونت في عروقهم لوناً آخر من ذلك السائل الكيميائي غير الذي يجري في عروقنا نحن.
هذا النشيد إذن بتأثيره في سامعيه نشيد غير الذي ننشده نحن وإن لم تختلف ألفاظه، وما قيمة الألفاظ التي لا تنقل نفس الأثر؟