إليك، أيها القارئ، أَنفُض أحزاني وأشجاني. ولو شئت لدللتُك على فيالق من المؤلفين في المشرق والمغرب شكَوْا دهرهم كما شكوتُ، وتوجعوا من زمانهم كما توجعتُ، وعانْوا من غدر الأصدقاء والزملاء بعض الذي أعاني.
فأنا لم أبتكر شكوى الزمان، وإن كنتُ أشقى المكْتوين بغدر الزمان.
أنا ما سرقتُ ثقتك، أيها القارئ، حتى ينفق ناسٌ من أعمارهم ما ينفقون لينفِّروك مني، فأنت تعرف أني قضيت أكثر من عشرين سنة في خدمة اللغة العربية خدمةً صحيحةً صادقةً، يعجز عنها الرجال (الأفاضل) الذين يُحسنون حِياكة الأقاويل والأراجيف، والذين تشهد سرائرهم بأنهم لو كلِّفوا نسخ مؤلفاتي ومقالاتي وقصائدي لانقضت أعمارهم قبل أن ينسخوا تلك الألوف المؤلفة من الصفحات العامرة بالأفكار والمعاني.
المخلصون في زمانك قليل، أيها القارئ، وهم مع ذلك لا يخدمونك إلا في ميدان أو ميدانين، أما أنا فقد خدمتك في كثير من الميادين:
نظرتُ فرأيت اللغة العربية تتشوق إلى من يحدد مقاصد النقد الادبي، فألفت كتاب (الموازنة بين الشعراء) وقد طُبِع مرتين. ورأيت لغة العرب تنتظر من يحقق بعض المؤلفات القديمة فنشرت كتاب (زهر الآداب)، وتداركتُ في الطبعة الثانية ما فاتني تحقيقه في الطبعة الأولى، فجاء صورةً من الأدب المخدوم بجدٍ وعناية، ثم نشرتُ (الرسالة العذراء) مصحوبةً بدراسات وتحقيقات، ثم عاونتُ على إخراج كتاب (الكامل) في صورة تسرُّ الناظرين. وتلك جهودٌ بذلناها لوجه الأدب، ولم نر من منافعها المادية غير أطياف!
ورأيت القرن الرابع هو الفَيْصَل بين عهدين من عهود الإنشاء، فألفت كتاب (النثر الفني)، الذي يُعدُّ بحق خير كتاب في بابه منذ العصر العباسي إلى اليوم، والذي أرغم الحاسدين والحاقدين على الاعتراف بأن الرجل الذي كوى قلوبهم وكبُدهم لم يكن في حياته من العابثين.
ورأيت المجتمع المصري في حاجة إلى من يدُّله على هفواته الذوقية والأدبية والخلقية، فألفتُ كتاب (البدائع) الذي أقبل عليه القراء فطُبع مرتين، وألفتُ رسالة (اللغة والدين والتقاليد) التي أجازتها لجنة المباراة الأدبية برياسة مدير الجامعة المصرية.