للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هي من نوعه ومن طينته، فهو نفس أو روح، وبقية الناس نفوس أو أرواح، والتعارف بين النفوس والأرواح لا يحتاج إلى تعليم ولا تدريب، وإنما هو شيء يحدث بالسليقة والطبع كما يعرف الزيت الزيت فيسعى إليه ويمتزج به مهما فرق الماء بينهما. ونحن إذا تأملنا الأطفال عندما تجمعهم الظروف لأول مرة بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه خيِّر، أو بإنسان نعرف نحن بالتجربة أنه شرِّير وكان مظهر كل من هذين يشبه إلى حد كبير أو صغير مظهر الآخر. . . رأينا الأطفال يندفعون إلى الذي نعرفه خيِّراً، وينفرون من الذي نعرفه شريراً، وليس هذا إلا لأن الأطفال أطلقوا إحساسهم صادقاً يميزون به وحدة النفوس والأرواح بعضها من بعض، ولا يقيمون بعد ذلك وزناً للاعتبارات الأخرى التي نقيم لها نحن الأوزان، والتي نتأثر بها قليلاً أو كثيراً في إصدار أحكامنا على الناس فنصدرها أحكاماً اختلطت (حيثياتها) فبعضها من القانون الطبيعي الصحيح وأغلبها من قوانين أخرى وضعناها نحن، ووضعها الزمان، ووضعها المكان، وما أكثر هذه عند الكذابين الغشاشين، وما أشد تأثيرها في أحكامهم، وما أشد ما يبتعدون بها عن الحق في هذه الأحكام فيغشون أنفسهم كما يغشون الناس.

هذا من ناحية الإحساس وصدقه

والأصل في الإنسان أيضاً أن يستجيب لإحساسه هذا الصادق متى تمكن من نفسه، فإذا أحب اندفع إلى ما يحب، وإذا كره انقبض عما يكره، ونحن إذا تأملنا الأطفال رأيناهم يستجيبون إلى هذا القانون الطبيعي أكثر مما نستجيب له نحن الكبار، ومهما أخذنا على الأطفال الأنانية في مسلكهم هذا فإننا لا نستطيع أن نتهمهم فيه بالخديعة والغش، ثم إن هذه الأنانية نفسها التي نأخذها على الأطفال تنقحها الحياة الطبيعية شيئاً فشيئاً، وتمحوها شيئاً فشيئاً، فالطفل كلما كبر على سجيته أدرك العلاقات الحقيقية - لا الزائفة - التي تربطه بالمجتمع الذي يحيط به، ورأى نفسه مطالباً أمام نفسه - لا أمام غريب عنه صاحب حق مفروض وتكليف مصنوع وحساب مسلط - بأن يراعي حق هذا المجتمع عليه كي يراعي المجتمع أيضاً حقه عليه. . . وهذا شيء ملحوظ في مجتمعات الأطفال، التي تتألب بسرعة على الطفل الطاغية الذي يميل إلى قهرها وفرض سلطانه عليها زوراً، وهو ما تتحرج عنه مجتمعات الكبار وتحتار وتختبل وتتعثر في القيام به.

<<  <  ج:
ص:  >  >>