للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من الأعمال وأنه قاصر عن أدائه لما لجأ إلى الكذب يستر به عجزه، ويموه به على صاحب الحق مدعياً أنه قام بما كلف به، وهو يريد من وراء ذلك أن ينجو من حساب صاحب الحق، وهذا شعور ينافي طبيعة الطفولة التي حررتها الأديان والقوانين الطبيعية والقوانين الموضوعة من التكليف والحساب، لأنها فعلاً لا تطيق التكليف ولا الحساب.

فالطفولة إذن صريحة صادقة بطبعها، والأطفال إذن يتعلمون من الكبار الكذب فيما يتعلمون من ألوان الكفاح والصراع في سبيل الرزق وغير الرزق من مطالب الإنسانية الجوفاء، والكذب الذي يتعلمه الأطفال له ثلاث شعب: هذه الشعبة الأولى التي رأيناها تأخذ تعبيرهم عن أنفسهم وتصبغه بصبغة الغش، والشعبة الثانية تلك التي تمنعهم من الاستجابة إلى إحساسهم الصادق فتقعد بهم عما يحبون، وتلقي بهم إلى حيث يكرهون متبعين في هذا اعتبارات ليست من الحق المطلق في شيء وإنما صنعتها هذه الحياة الملفقة التي اختلقت المذاهب، والمواطن، والعلاقات البشرية المتناقضة المضطربة القائمة على النفع العاجل والزيف. ثم هذه الشعبة الثالثة تقيم بينهم وبين الحق سداً منيعاً وتغلف أنفسهم عنه، فتعمي أبصارهم، ولا يعودون يرون الشيء على حقه، وإنما يرونه حسبما تشتهي أنفسهم الكاذبة، وشتان ما بين الحق وبين الذي يشتهيه الكاذبون.

ولكي يدرك القارئ مدى الحق فيما أقول أدعوه إلى أن يتصور صاحباً له ممن عرف فيهم الميل إلى الكذب وإدمانه، والتعلق بالغش والإسراف فيه، فإذا ما استحضره في ذهنه فإني أطلب منه أن يتابع حياته وأن يرى كم يقع هذا الكذاب الغشاش في أحابيل الكذابين الغشاشين؟

أما أنا فأعرف أمثلة عديدة لهؤلاء المساكين، وأعرف أنهم أسهل فريسة للكذب والغش مع تفوقهم في تدبير الكذب، وتمكنهم من حبك الخديعة. . . فإذا اتفق صاحب القارئ مع أصحابي في هذا جاز لنا أن نعتبرها قاعدة مطردة، وحق علينا أن نستقصي أسبابها. ولن يجهدنا السعي إلى أسبابها كثيراً أو قليلاً لأن ذكرها تقدم في الذي انبسط أمامنا من الحديث عن شعب الكذب. فالأصل في الإنسان أن يستطيع التمييز بين ما هو خير وبين ما هو شر، وإذا جاز للإنسان أن يعجز عن التمييز بين الخير والشر فيما اختلف عن نوعه من المخلوقات والموجودات فإنه لا يمكن أن يلم به هذا العجز في صدد الكائنات البشرية التي

<<  <  ج:
ص:  >  >>