للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فأي ميزة هي هذه التي في الأطفال تسعدهم وتبرئهم وتستنبت الفن فلي نفوسهم فإذا كبروا اجتزوها واستأصلوا الفن معها، وصاروا بعد ذلك هكذا كما نراهم. . .

إنها لاشك الميزة التي تبعث الفن، إنها الصدق في الحس، والصدق في الاستجابة له، والصدق في التعبير عنه. . . وهذا الصدق إذا صين في النفوس كبر الأطفال وهم لا يزالون أطفالاً، وأقبلوا على الحياة كما يقبل عليها الأطفال مطمئنين مبتهجين، ولم يكن لهم شغل في الدنيا إلا اللعب والغناء والطرب والبحث عن السعادة. فتصبح أيامهم عندئذ أعياداً. . . كما كان آدم وحواء في الجنة: لا تكليف ولا حساب، لأن التكليف والحساب لم يجبا ولم يلزما إلا فيما جد على الإنسان من حياة بعد الجنة، وفيما يجد على الفرد من حياة بعد الطفولة. . . تمهيداً لعودة الإنسان إلى الجنة، ورقيباً عليه وصوناً حتى يعود الفرد إلى طفولته الثانية وهي الشيخوخة، وفيها تضعف عند الإنسان قوة الكبت التي يضغط بها الصدق في نفسه فيطفو الصدق من جديد ولكنه يسرى عندئذ في أعصاب منهكة تراكمت فيها الأكاذيب وآثار الأكاذيب، فهو لا يحظى من سعادة الطفولة إلا بمقدار ما خلصت نفسه في حياته من الشر ودواعيه. فإذا كان قد عاش على الصدق والفرح فهو في طفولته الثانية كما كان في طفولته الأولى تملأ نفسه البهجة ولا تفزعها الوساوس، وإذا كان قد عاش على الغش والختل فيا ويله من طفولته الثانية! ويا ما أشد الذي يلقاه فيها من الصراع بين الصدق الذي طالت غمرته والذي يريد أن يفيض، وبين الكذب الذي طال تشبثه بنفسه ثم ضعف فهو لا يقوى على البقاء. . . ومع هذا فإنه يأبى أن يزول في هدوء.

والآن. . . هل صحيح أن الطفولة تمتاز بالصدق؟ وهل صحيح أن الصدق مبعث الفن والفرح معاً؟

أما أن الطفولة تمتاز بالصدق فإنه من غير شك صحيح. لأننا إذا تتبعنا أكاذيب الناس رأيناها تنقسم إلى قسمين: قسم يراد به تحصيل نفع أو دفع ضرر، وقسم آخر يراد به التسلية والترويح عن النفس، والقسم الثاني يدخل من باب الفن لأنه تخيل يستكمل به صاحبه نقصاً يحسه، وهذا لا يؤذي صاحبه ولا غيره إن لم ينفع البشرية ويحضها على استكمال النقص الذي رآه صاحبه. وأما القسم الأول الذي يراد به تحصيل النفع أو دفع الضرر فهو من مستلزمات التكليف والحساب، فلو لم يشعر صاحبه بأنه مطالب بأداء عمل

<<  <  ج:
ص:  >  >>