وتداركه لطف ربه فبرئ مما ألم به؛ وكانت تخفف عنه آلامه وتسري عن فؤاده سيدة أحبها فكانت له في شدته ملاك الرحمة وذلك من فضل الله عليه
ولم يكد يستعيد قوته حتى ألفى الحكومة تطارد أنصاره فتخرجهم من سويسرا بأمر من الدول المسيطرة يومئذ؛ وعز عليه أن يبرح تلك البلاد فيبعد عن إيطاليا وإنه ليحس أن قربه منها يشد عضده ويربط على قلبه، وهو لا يعرف له مستقراً إلا أن يكون ذلك في إنجلترا أو أمريكا ولكنه لا يطمئن إلى أولاهما لا يطبق البعد في الأخرى
لذلك لاذ المجاهد المكدود بالهرب فقضى سنوات ثلاثا مختبئ في منازل بعض محبيه؛ كأنما قدر عليه أن يحيا حياة السجناء وما هو بمجرم ولا مجنون؛ وتوالت عليه المحن وانتابته النوازل، فتمشى السقم في بدنه وتراءت الصفرة في محياه، ولاحت اللوعة في عينيه؛ ونفد ماله حتى لجأ إلى طلب العون من أصحابه وكانت أمه ترسل إليه ما تستطيع أن ترسله كلما كتب إليها يسألها المعونة ورثت ملابسه وأعوزته الكتب التي كانت عزاءه في غربته وسلوته في وحدته؛ وحيل بينه وبين أنصاره فبرم بالوحدة واستوحش الغربة، وألح عليه مرض أسنانه فكان يتناوب هو والهم جسده المضني
وأحزنه ما ترامى إليه من الأنباء عن تخاذل الناس وفتورهم في إيطاليا، كما آلمه أن يجد بعض المنفيين يعودون باللائمة عليه فيما أصاب حركتهم من فشل؛ ولقد أدى ذلك إلى أن يضيق بالناس فما يصطحب إلا قطة أحبها!
وهكذا يجتاز الزعيم الطريد فترة من أشد فترات حياته المريرة فترة البلاء التي ما خلت من مثلها فيما نعلم حياة زعيم؛ وخيم عليه ذلك الظلام الذي يسبق في حياة القادة النور الوهاج الذي يبدد بقوته كل ظلام
وإنما يكون هذا البلاء في حياة الزعماء وحيالهم يشعرهم بسمو الغاية التي يجاهدون من أجلها، فيزيدهم هذا الشعور تعلقاً بمبادئهم وحرصاً على بلوغ غاياتهم حتى ليصبح الألم محبباً إلى أنفسهم أن كان مبعث اليقين والصبر، وتلك ناحية تمتاز بها كبار النفوس من سائر النفوس
ولن يكون عظيماً من تتعاظمه الشدائد فتلويه عن وجهته، وإنما العظيم من يسير على القتاد مغالباً كل ما يعترضه، وعلى قدر ما يجتاز من الصعاب تكون عظمته ويكون الأثر الذي