للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تتركه في الناس حركاته، ومن هنا أيضاً كان ترحيب العظماء بملاقاة المكاره، ثم من هنا جاءت قيمة التضحية والفداء وولدت الزعامة

والألم فوق ذلك يمحص المجاهدين فيستخفون كل مرة بما يأتي بعدها من ضروبه حتى ليصير مألوفاً لديهم؛ وذلك ضرب من الغلب يأتيهم من بطلان سبب من أكبر أسباب الهزيمة

لذلك صبر مازيني، ومثله خليق أن يصبر وهو الذي جعل من مبادئ جمعيته التضحية والفداء والصبر على الآلام، بل والسعي إليها ومجابهتها، فلما كتبت إليه أمه تسأله أن يرجع عما هو بسبيله كتب إليها يقول: إنه كان يفعل ما تأمر لو أنه استطاع ذلك! فانظر إليه كيف لا يستطيع أن يبتعد عن المحن والآلام وخذ من رده هذا معنى من أبلغ معاني البطولة. . .

وكان له في وحشته نور من مبادئه ترى قبساً منه في قوله: (لقد جعلنا قضية الناس قضيتنا، ولقد حملنا على عانقنا باختيارنا آلام جيل بأجمعه؛ وقبسنا من الله الباقي شعلة، ووضعنا أنفسنا بينه وبين الناس؛ واضطلعنا بدور المحرر، وتقبلنا على ذلك الله)

وعلمه ما سبق من الفشل أن يصبغ مبادئه صبغة تجعل لها مثل قوة الدين، فتكون بذلك أسرع نفاذاً إلى القلوب، فإذا مستها علقت بها حتى ما تنتزع منها؛ لذلك جعل من تعاليمه الحث على المبادئ السامية التي بها تكمل الإنسانية؛ كأداة الواجب لذاته، ومحبة الناس جميعاً، والعمل لخير الإنسانية عملاً لا يبتغي المرء من ورائه جزاءً ولا شكوراً، والبذل والفداء في غير مَن، والصبر على المكاره في سبيل النصر

وراح يوحي ذلك إلى الناس بخيال شاعر ويقين نبي حتى أحيطت دعوته بروح مثل روح الدين، وأصبحت الكلمات التي لا تكون على لسان غيره أكثر من كلمات، قوة لها سحرها وفتونها على لسانه هو؛ وأصبح شخصه بين حوارييه وكأنما رفعته قوة خفية إلى مرتبة فوق مرتبة البشر وإن كانت دون مرتبة الأنبياء

وأصبحت وطنية الذين اتبعوه أكثر من أن تكون وطنية؛ فلقد ملأت قلوبهم الآمال واشرأبت نفوسهم إلى المثل العليا، وفي ذلك تتجلى رسالته الحق إلى الجيل، إذ قد جعل الناس يؤمنون أن في هذه الحياة غير الدين ما يستحق تضحية النفس في سبيله، ومن ذلك الوطن

<<  <  ج:
ص:  >  >>