للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والحرية والكرامة الإنسانية

وكان يشتد به الحنين إلى وطنه وهو في سويسرا حتى ليفعل به الحنين ما يفعل المرض؛ وإنه ليعلق خياله بتلك السحب التي تجتاز الجبال لأنها تسير إلى إيطاليا؛ وإنه ليمد بصره إلى أقصى ما يستطيع نحو وطنه وكأنه يستأنس بهذه النظرات فهو يطيلها أحياناً كما لو بات في غيبوبة

على أن الأنباء التي كانت تصل إلى مسمعيه عن أهل هذا الوطن كانت تزيده غماً على غم، فهذه الرجعية العتيدة التي تؤيدها النمسا تزعم خاطره وتؤلم نفسه، وهذا الخور الذي حل بالرجال يغيظه ويحزنه، حتى ليصل به الأمر أحياناً إلى أن يتدبر أهو على صواب فيما هو فيه من جهاد يجر عليه عذاباً كذلك العذاب الأليم؟

ولكن نفسه كانت تحدثه أبداً أنه مهما قل أنصاره، ومهما مسه من الضر أو أصابه من الهم، فلابد أن تكون العاقبة بحيث تستحق ما يلاقيه؛ وكان قلبه يوحي إليه دائماً أن مبادئه محققة في غد لا محالة على يده أو على يد غيره؛ وكثيراً ما أعانه هذا الأمل على التغلب على كثير من الصعاب؛ ولقد يشتد هذا الأمل عنده حتى فكأنه يرى المستقبل فهو يبشر أبداً بالفوز كأنما كان يوحي إليه به من وراء حجاب. فهل كان مرد ذلك إلى شدة يقينه وقوة حماسته أم إلى جموح خياله وقلة تجربته؟ ألحق أن خياله كان ذا سلطان كبير عليه، ولكن جانب اليقين في نفسه لم يكن أقل من جانب الخيال، بل لقد نستطيع أن نقول إن قوة خياله كان مبعثها قوة يقينه فلولا ما أيقنه واعتزمه ما طمع في شيء ثم ما تخيل شيئاً

وجمع مازيني في سويسرا حوله نفراً من أهلها وأوحى إليهم أن يعملوا للحرية وأغراهم أن ينشئوا جمعية على غرار إيطاليا الفتاة فتألفت بذلك سويسرا الفتاة، وأصدر أعضاؤها صحيفة تعبر عن مبادئهم وعاونها مازيني بقلمه، ولقد كان مازيني يبغي من وراء ذلك أن تنتشر الحرية في كل مكان في أوربا لتتألف منها قوة عظيمة تجرف أمامها الرجعية، وتقذف بها إلى غير رجعة؛ وانتشار الحرية في سويسرا من شأنه أن يؤدي إلى تسربها إلى جارتها، هكذا حدثته نفسه الوثابة وخيلت له روحه المتوقدة

ولكن الحكومة السويسرية تقرر نفيه من بلادها مخافة أن يبذر فيها بذور الثورة، وتجد في البحث عنه وتقضي في غير إبطاء على حركته هذه، وهي في مهدها، فيجد نفسه مضطراً

<<  <  ج:
ص:  >  >>