أوثر أبا العلاء وأحابيه وأرضى منه أشياء لا أرضاها من غيره فقد لا تخطى ولا تبعد، وأظنني نبهتك إلى ذلك في أول الحديث، وقلت غير مرة إني لا أملي كتاباً في البحث العلمي ولا في النقد الأدبي، وإنما أسجل خواطر أثارتها في نفسي عشرة أبي العلاء في سجنه وقتاً ما)
فمن المصادفات العجيبة أنني حابيت أبا العلاء على نحو قريب من هذا النحو، ولكني لم أسمها محاباة بل قلت إنها هي الإنصاف المعقول في قياس الأقوال بالقائلين، وعبت من نصحونا بأن ننظر إلى ما قيل لا إلى من قال، فكتبت قبل ثلاثين سنة في مذكراتي التي جمعتها باسم (خلاصة اليومية) أنها قاعدة لا يصح إطلاقها على كل حال. فالكلمة تختلف معانيها باختلاف قائليها، وكلمة مثل قول المعري:
تعب كلها الحياة فما أعج ... ب إلا من راغب في ازدياد
يؤخذ منها مالا يؤخذ مما تسمعه في كل حين بين عامه الناس من التذمر من الحياة وتمنى الخلاص منها، لأننا نثق بأن المعري مارس الأمور الجوهرية في الحياة ودرس الشؤون التي تكون منها عذبة أو مرة، نكداً أو رغداً؛ ولم يسبر منها أولئك العامة إلا ما يقع لهم من الأمور التي لا تكفى للحكم على ماهية الحياة
فكلانا إذن يسمع القول من شيخ المعرة فيعجبه، ويسمع القول نفسه من غير الشيخ فلا يحظى عنده بذلك الإعجاب لكن صديقنا الدكتور يسميها محاباة ومجاملة لصديق، وأنا أجرى فيها على سنتي الغالبة في كل شيء من التوفيق بين الحجة والعاطفة فلا أبرح بالعاطفة حتى أقنع بها عقلي وأثبت له أنها جديرة بإقراره وترخيصه، فيعيش العقل والعاطفة معا في وئام، وأخلص بهذا مما يقع بينهما من ملام وصدام
وشيء آخر أخالف به الدكتور أو تخالف فيه طريقتي طريقته في صداقة أبي العلاء
فأنا لا أذكر أنني كرهت أحداً أحبه أبو العلاء، أو أحببت أحداً كان هو من كارهيه
أما الدكتور فيعلم ما كان في نفس صاحبه من الحب والإكبار لأبي الطيب ثم يقول: (أنا أقدر فن المتنبي وأعجب ببعض آثاره إعجاباً لا حد له، واعجب ببعضها الآخر إعجاباً متواضعاً أن صح أن يتواضع الإعجاب، وأمقت سائرها مقتاً شديداً، ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقاً عليه ولا رثاء له، وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان