للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

توهمت أنه سماوي وأنا أرضي.

ولا شك أن هذه بعينه تقسيم الأستاذ أحمد أمين الأدب إلى أدب الروح وأدب المعدة، فأدب الروح هو الأدب السماوي، وأدب المعدة هو الأدب الأرضي. وخلاصة ما ذهبت إليه في ذلك أن الشعر لا يصلح أن ينظر إليه على أنه ليس إلا ألفاظاً وأخيلة من تشبيهات واستعارات ونحوها، ولا يليق أن نعده من وحي الشياطين، فيكون لهواً وعبثاً في الحياة لا غير، وإنما يجب أن يكون الشعر إلهاماً شريفاً، ووحياً صالحاً، وعملاً نافعاً في هذه الحياة، يدعو إلى النهوض، ويجهر بالإصلاح، ويوقظ النفوس النائمة، ويحرك العقول الجامدة، وبهذا يكون الشعراء في الأمة رسل إصلاح، وأئمة هداية فينفعون ولا يضرون، ولا يكونون في هذه الحياة أبواقاً للشياطين.

وهذا الأدب الذي دعوت إليه وذهبت إلى تقديمه على غيره هو الأدب الذي دعا إليه الإسلام، وجاء به القرآن الكريم، فذم شعر الجاهلية في جملته، وقبح موضوعه وأغراضه، وذلك في قوله تعالى: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) وفي قوله أيضاً: (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) وقد ذمه الني صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (لما نشأت بغضت إلى الأوثان وبغَّض إلي الشعر). وقال أيضاً: (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيئاً خير له من أن يمتلئ شعراً) ثم جاهد في إصلاح ذلك الأدب الجاهلي الضال جهاده في إصلاح عقيدتهم الضالة، وسلك سبيله في ذلك الخلفاء الراشدون فضربوا على يد كل شاعر أراد أن يستن في الإسلام سنة شعراء الجاهلية، فيجعل الشعر سبيلاً لجمع المال، ولا يعرف في ذلك إلا المدح والهجاء ونحوهما من تلك الأغراض التي وقف عندها الشعر الجاهلي، وجمد عليها جمود أهل الجاهلية على عبادة الأوثان، وقد حبس عمر الحطيئة في ذلك حتى أستشفع إليه بقوله:

ماذا تقول لأفراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجر

ألقيتَ كاسبهم في قَعرِ مُظلِمة ... فاغفر عليك سلامُ الله يا عُمُر

أنت الأمين الذي من بعد صاحبه ... ألقي إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر

<<  <  ج:
ص:  >  >>