بإيمانهم ظلماته؟ وهل صرف ما ألح عليه من المحن والشدائد عن وجهته؟ أم أن الشدائد قد زادته صلابة ويقيناً وإن كان جسمه كان يشكو من التعب وسوء الغذاء وغيرهما مما يكون نتيجة للعسر المالي؟
الحق أنه كان يزداد إيماناً فوق إيمانه كلما تصرمت الأيام. ولقد كان على بينة من أن جهاده لم يذهب سدى، وأن هذه البذور التي بذرها فسقتها دماء الأحرار لا بد أن تنمو وتؤتي أكلها، وأن تلك الجمرة التي يخفها الرماد لا بد أن يتطاير الرماد من فوقه إذا نفخ فيها الشباب من روحهم فتعود كما كانت وهاجة مستعرة ولا تقوى بعد على إطفائها الأيام. ولئن تخاذل الرجال عن دعوته فذلك لأنهم فقدوا الثقة في الثورات وفي الحرب الهمجية، أما مبادئ الوطنية والحرية فقد تغلغلت في النفوس واستقرت في أعماقها، ولسوف تكون هذه المبادئ في غد أكبر حافز لأبناء إيطاليا أن يقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل وطنهم يوم يسيرون في حروبهم النظامية ليضربوا عدوتهم الكبرى، ألا وهي النمسا. ولئن تمت وحدة إيطاليا في غد بفضل مساعي كافور وبطولة غاريبلدي والبواسل الأشداء من رجاله، فإن التاريخ لن يستطيع أن ينكر أن دعوة مازيني كانت الروح المحركة في جميع هاتيك الخطوات، فهو الذي أعد الرجال وإن كان غيرهم ساقهم جنداً وهو الذي حشد من الأبطال ما لن يستطيع غيره أن يحصيهم عدداً؛ وفضلاً عن ذلك ففي حجر جمعيته ولد كافور وغاربيلدي فكان أحدهما رأس الحركة الوطنية وكان الآخر ساعدها.
دأب مازيني في غربته على العمل من أجل قضيته الكبرى؛ وما كانت الكتابة يومئذ إلا وسيلة لكسب قوته؛ ولئن لم يستطع أن يتصل بمواطنيه بإيطاليا إلا في مشقة شاقة، فقد أخذ يتصل بالإيطاليين في إنجلترا عامة وفي لندن خاصة ونشط في بث دعوة في قلوبهم؛ وكان يعني أكبر العناية بأن يقبل العمال على دعوته لأنه كان يقدر القوة التي يمكن أن تنبعث من صفوف هذه الطائفة.
ولم يحل الفقر بين هذا الرجل العظيم وأبناء وطنه في إنجلترا، فأنظر إليه على ما كان به من الفاقة كيف يفتتح مدرسة ليلية لتعليم أبناء إيطاليا الغرباء وتثقيف عقولهم حتى ينفذ إليها النور الذي يسعى به فيكونوا عوناً لبلادهم إذا رجعوا إليها ويكونوا عدتها غداً في كفاحها؛ ولك أن تتصور مبلغ ما عانى في سبيل جمع المال للإنفاق على هذه المدرسة، وهو الذي