دعوة الإعتدال، ومؤداها الاقتصار في ذلك الوقت على المطالبة بالإصلاح الداخلي، حتى تتهيأ البلاد للاستقلال، فتكون وثبتها في غد وثبة قوية لا تخاذل بعدها. وكان أصحاب هذه الدعوة يتطلعون إلى ملك بيدمنت ليكون عوناً لهم في تحقيق آمالهم في الإصلاح. . . وغضب مازيني من هذه الدعوة وضاق بها صدره، إذ كان يرى النمسا أساس كل فساد. وكيف يتسنى للبلاد أي إصلاح وسلطانها مفروض على الأمراء ونفوذها متغلغل حتى الأعماق؟ أنه يرى أن سياسة المعتدلين قلب للوضع المعقول؛ فالوطنية هي الخطوة الأولى والثورة تأتي بعدها، ومن وراء الثورات المتلاحقة يأتي الغلب في النهاية، ويكون بعد الغلب الإصلاح كأسرع وأكمل ما يكون الإصلاح!
وإنه ليخشى أن يركن الناس إلى هذه الدعوة فتموت روح الوطنية في نفوسهم ويستطيع بعد ذلك المستبدون بهم أن يلهوهم عن غايتهم الكبرى ببعض مظاهر الرخاء المادي حتى تنحل عزائمهم وينسوا القبلة التي كانوا يتوجهون إليها، وتغرهم مطالع الدنيا فيصبح بعضهم لبعض عدواً، وقد كانوا بالوطنية والجهاد في سبيل قضيتهم المشتركة بعضهم أولياء بعض.
وأمض نفس الزعيم النازح أن يسفه بعض دعاة الاعتدال آراءه، وأن يهاجموا حركاته أقسى مهاجمة، فيتهموه بأنه يلقى بالشباب بين براثن الموت وهو بعيد، كل أولئك في غير جدوى، مرة بعد مرة. . . وأثارت هذه التهمة نفسه حتى لقد فكر أن يذهب إلى إيطاليا على الرغم من الحكم عليه بالإعدام، فيضحي نفسه في سبيل قضيته. فللموت أهون على نفسه من هذه التهمة، ولولا أن صدفة عن ذلك بعض أصدقائه لأقدم عليه في غير تردد. وكأنما أراد الغريب المناضل أن يرد عليهم بالعمل خيراً من القول، فأخذ يدبر ثورة جديدة يذيعها في طول إيطاليا وعرضها يكون مركزها هذه المرة الولايات البابوية، إذ كان قد علم أن وسط إيطاليا كان يزخر يومئذ بالمؤامرات السرية، وكان ذلك في عام ١٨٤٣ واتصل مازيني بنبيلين ضابطين في بحرية النمسا، وهما أتيليو وإميليو من أهل البندقية، وأوعز إليهما أن يوقدا نار الثورة في وسط إيطاليا - ولكن البوليس - ألقى القبض عليهما بعد أن وثق من حركاتهما ومراميهما، فسيقا إلى الإعدام، وزادت دمائهما الزكية شجرة الحرية نماء وقوة. وعلم مازيني أن الحكومة الإنجليزية هي التي دلت عليهما، لأنها كانت تفتح رسائله