أنزلني الدَّهْرُ على حكمه ... من شامخٍ عال إلى خَفْضِ
وغالني الدهر بِوَفْر الغنى ... فليس لي مال سوىِ عرضْيِ
أبكانَيِ الدهر ويَا رُبَّمَا ... أضحكني الدهر بما يُرْضِي
لولا بُنَيَّاتٌ كَزُغْبِ الْقَطَا ... رُدِدْنَ من بَعْضٍ إلى بَعْضِ
لكان لي مُضْطَرَبٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطول والعَرْضِ
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرض
لو هَبَّتِ الريح على بعضهم ... لامتنعتْ عيني عن الْغَمْضِ
فقوة هذا الشعر ترجع إلى الشاعر لا إلى اللفظ، ولا إلى الأسلوب. ومن ذلك يتضح أن من يزعمون أن القرآن ليس من جنس كلام العرب لم يفهموا شيئاً من أسرار الإعجاز، ولذلك نراهم يدورون حول الظواهر والمحسنات اللفظية، ويرجعون في ذلك إلى الناحية اللفظية أو الفنية، ونحن نرى غير ذلك، فنرى أن محمداً عليه السلام اجتذب العرب لأنه نبي، ولم يجتذبهم لأنه فنان، فالفن الكلامي لم يكن جديداً عند العرب، وإنما كان الجديد عندهم أن يأتيهم رجل منهم بأساليب من الفكر والعقل والوجدان غير التي كانوا يألفون، ومن العبث أن نظن أن البلاغة لا تخرج عن المناورات اللفظية، فإن هذا إسراف في تقدير الزخرف، وامتهان لصولة العقول، إن الألفاظ في مقدور كل شاعر وكل كاتب وكل خطيب، ولكن المعجزة حقاً هو الفكرة. وليس معنى هذا أننا لا نقيم وزناً للصناعة الفنية، ولكن معناه أننا نقرر أن الفكرة تجيء أولاً، ويجيء الورق ثانياً، كما يقول الفرنسيون)
وإنما أطلت النقل من كتاب (النثر الفني) لأقيمه دليلاً قاطعاً على أن الأستاذ زكي مبارك لا يؤمن بتلك الناحية الفنية التي أخذ على الأستاذ أحمد أمين تهوينه من أمرها، ويكاد يتفق معه في أن الشأن في ذلك لقوة الروح والفكرة، ومن الإنصاف أن نذكر أن الأستاذ زكي مبارك لا يفرق في ذلك بين قوة الروح في الخير والشر، ويرى أن الشاعرية روح يتمرد به الشاعر فيهز نفس القارئ أو للسامع هزاً عنيفاً يحمله على أن يؤمن وهو طائع ذلول بما يدعو إليه الشاعر من تزيين الإثم والبغي، أو تقبيح الغي والفسوق ومن الأول قول ديك الجن: