وكان هؤلاء (المتطوعون) يعبرون عن مصر كلها لا عن الفريق المتطوع حينما وضعوا هذا اللحن الذي سار والذي استدل به الباحثون فيما بعد عن أسباب الثورة المصرية، كما يستدل الطبيب بالنبض على حركة القلب.
وكذلك الشعر لم يكن قط قلباً للأمة، ولكنه نبضها الذي يستدل به على حالة ذلك القلب. وهذه الحقيقة هي أساس النقد الحديث الذي يذعن له النقاد منذ وضع سانت بيف كتابه (تاريخ الحضارة الإنكليزية كما يظهر من خلال أدبها).
ولم يكن المتطوعون في الحرب الكبرى كلهم من طبقة واحدة ولا كان تطوعهم ذا صبغة واحدة، ولا كانت أغراضهم واحدة، ولكن كانت الكثرة كما تقدم وصفها، وكان فيها فريق تطوع بمحض الرغبة فراراً من الفتك الاقتصادي وطمعاً في القوت.
وكان هذا الفريق من لابسي (الهلاهيل)، وقد أبت طبيعة الأشياء إلا أن يسجل هذا الفريق من البؤساء على جبين الزمن شكواه من ذهابه للقاء الموت من أجل الكساء الذي يستر العورة ولم توفق مصر إلى شاعر من أبنائها يحس إحساس الفريق فيعبر عن مشاعره. فأعرب هؤلاء الرعاع عن مشاعرهم ولحنوها بأنفسهم (ولا الحوجة للشعراء والموسيقيين).
وهكذا كان في متطوعي السلطة في الحرب الماضية مصريون كالعراة ينشدون هذا النشيد:
(يا اللي رماك الهوى ... حود على الكامبو
يقلعوك الهلاهيل ... ويلبسوك البلطو)
ومن الذي تراه كان من شعرائنا أو موسيقيينا يستطيع أن يقول ذلك القول أو يلحنه؟
لقد كنا. . .
ولا تسل كيف كنا. . .
نتعاطى من الهوى ما نشاء. . .
كان شعراء مصر في ذلك الحين يشربون الكوكتيل أو الويسكي على الأقل!
هل تصدق أنني كنت في سنوات الحرب أتقاضى مرتبي من وظيفتي في الحكومة، وكان مضافاً إليه علاوة الحرب مماثلاً لمرتبي الآن؟ لقد ترقيت ترقية طبيعية في مسافة العشرين عاماً بين الحربين ولكن الترقية في مسافة عشرين عاماً لا تكاد تبلغ المائة في المائة التي كنا نتقاضاها علاوة حرب، وكان في الشعراء الآخرين من هو أيسر حالاً وأهنأ بالاً، والعلة