للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنت الذي تمنّ عليّ، لو شئتَ، وأنت تشاء لأن زمانك منّان، ولكني سأعفيك من رذيلة المنّ على الأصدقاء.

أنا أختلق المحاسن لأصدقائي، فكيف أبخل بالثناء عليك بما أنت له أهل؟ وكيف أجاريك في طمس محاسن الصديق وأنا أقوى منك؟

لا تنزعج من كلمة الحق، أيها القلب، فستسمع مني بعد ذلك ما يرضيك. أنا راضٍ عنك مع جهلك، لأن شعرنا يقول:

ولربما اعتصم الحليم بجاهل ... لا خير في يُمنَى بدون يسارِ

وعقلي محتاج إلى جهلك، أيها القلب ... أتذكر ما وقع في صباح اليوم؟

كنت في سيارة عمومية، وصعد زوجان إنجليزيان ومعهما طفل وطفلة، فوثب الطفل إلى صدري يسكن إليه، فنهرته أمه فغضب، وجذبه أبوه من يده فثار وجرى إلى باب السيارة لينزل وهي في جنون السرعة، وخاف والد الطفل فأشار إليه أن يتوجه حيث شاء، فأقبل الطفل على صدري من جديد، وأخذ يشير إلى أخته أن تصنع كما صنع، فقضيت المسافة وأنا أحتضن طفلين عزيزين في رقة الأزهار ونضارة الرياحين.

ونظر الأب والأم إلى هذا المشهد نظرة حنان وهما في عجب عُجاب، فقلت: لا تعجبا يا سيديَّ، فهذان الطفلان يعرفان بوحي الفِطرة أني رجل له قلب. . .

وشاءت ظروف عملي أن أنزل في منتصف الطريق فتشبث الطفل بي وهو دامع العين مكروب، فلثمت جبينه فاستراح، وأوى إلى صدر أبيه وهو جذلان.

وكان ذلك لأنك كنت في صحبتي، أيها القلب.

وأرادت إحدى الغوادر أن تنسى ما صنع قلمي في التشبيب بجمالها الفتَّان فدلت وتاهت، فأصليتها صدّاً بصد وإغضاءً بإغضاء، فهي منذ سبعة أشهر تترضَّاني برسائل تذيب الجلاميد وأنا ألقاها بصمت الأوثان، فهل كان يمكن ذلك إلا لأنك في صحبتي، أيها القلب؟

عندي ألوف من الشواهد على أنك المصدر الأصيل لما أملك من عنفوان القوة والعافية، فإن صح أنك أصل لما قد يساورني من ضعف فذلك دقة النصل في السيف الصقيل.

إليك رجعت يا قلبي، فارجع إليَّ كما رجعتُ إليك:

فاقد يُسعف الجريح أخاهُ ... ويواسي الغريب في الأحزانِ

<<  <  ج:
ص:  >  >>