كان (ديكارت) يزعم خطأ يوم قال: بان لا مستقر في الدماغ الا للافكار الواضحة، وخلا هذه الافكار لا تقوم الا المادة الجامدة التي لا تحتوي على شيء، ولكن الفلسفة الحديثة نقضت هذا الرأي، وأثبتت ان هنالك في الدماغ مجموعة من احساسات وافكار وعواطف، كلها واضحة بادية، ووراء هذه المجموعة مجموعة عواطف نائمة ضعيفة، حتى لكأنها تحيا بنصف شعور! وهذه العواطف قد لا يأبه بها الانسان الا اذا نزل اليها وتنبه لها، ولكن الانسان - في أغلب الاحيان - ينقاد لها على غير وعي، ويقبل حكمها وهو جاهل مصدر الحكم، ويتبع ما أغرته به وهو غافل عن مكمن هذا الاغراء.
مع هذه العواطف القائمة تحيا كل ميولنا الفنية، واحساساتنا الشعرية، ونحن لا نكاد نشعر بها. فنقرأ المقطوعة الجميلة، فتتيقظ هذه الميول وتستفيق هذه الاحساسات، لهوى جاء في هذه المنقطوعة كان سبب يقظتها، فتهب وتظهر وتتوارى وترتخي وتشتد حسبما تشاء. فاذا عرجنا بهذا الهوى على المنطق والعقل تبدل الحكم وتغير الوضع، وجاءت النتيجة: اما مؤيدة لهذا الهوى أو ذاهبة به. على ان هذه الاحساسات نفسها تبقى مبهمة، متدثرة بشيء من الغموض والخفاء، لا يدرك من أين بدأت وانتشرت، والى أين تناهت وتلاشت.
أليس من واجب الشعر اذا ان يعبر عن هذا الهوى وهذا التناقض في الاحساسات التي لا تحصى؟ فاذا كان النثر الواضح المنطقي العقلي واجبه ان يعبر عن أفكار ظاهرة، وعواطف بادية، ومواضيع يراد تقسيمها الى فصول واجزاء لكي تدنيها من الافهام فان الشعر واجبه ان يعبر عن ذلك الاحساس الباطني الذي يكمن الجمال في حناياه.
إن (البرناسيين) وصفوا الجمال للجمال نفسه لا لغاية. وخده والفن للفن لا لحاجة. (ولكن الرمزيين) اعتبروا هذه المذهب وما قبله من المذاهب لا يصلح منها شيء للشعر، اذ - في الامكان - تحويل ما رصفوه القول ونظموه الى نثر لا يذهب ببهجة معانيهم. وانصرفوا هم الى انفسهم، وفي انفسهم تلك العوالم الواسعة الطافحة بالاحساسات المبهمة، والاهواء المظلمة. لا يرسل اليها احد عقله حتى تتلاشى، ولا تلين للتعابير الواضحة لأنها تذهب بمعناها. والاحساس الحقيقي هو الاحساس الذي يختلج في النفس دون ان يستطيع البيان أن يعبر عنه. ولهذه الاحساسات - كما للصور الخيالية - رسائل لا يمكن أن تقيدها الاغلال المنطقية، والقيود الشعرية التقليدية. وهذه الرسائل التي تستعين - بالاحساس وحده