وأظرف من ذلك: أن الفقيه ابن الخضيري كان يحضر مجلسه بالليالي، فغلبته عينه مرة، فخرج منه شيء فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب أبلغوه عني:
يا ابن الخضريّ لا تذهبْ على خجَل ... لحادث كان قبل النّاي والعود
فإنها الريح لا تستطيع تحبسها ... إذ لست أنت سليمان بن داود
وكيفما كانت الأسباب التي حفزت البديع إلى انتجاع نيسابور فقد بدأت المناوشة بين الرجلين بكتاب أرسله الهمذاني إلى الخوارزمي، صدّره بهذا الكلام المعسول: إنا لقرب دار الأستاذ - أطال الله بقاءه - كما طرب النشوان مالت به الخمر، ومن الارتياح إلى لقائه، كما انتفض العصفور بلله القطر، ومن الامتزاج بولائه، كما التقت الصهباء والبارد العذب، ومن الابتهاج بمزاره، كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.
ثم ختم كتابه بأن طلب منه إرسال غلامه لينفض له جملة حاله.
والتقيا بعد ذلك على موعد مضروب في دار الخوارزمي، وما نشك في أنه أكرم مثواه، وأحاطه بألوان البر والرعاية، ولكن البديع كان مدخول النية مطويّ الجوانح على الضغينة! فخرج من دار مُضيفه غير حامدٍ لقياه، وأرسل إليه كتاباً حشوُه عتاب مرّ، يذكر فيه: أن الخوارزمي استزراه لغربته، واقتحمته عينه لرثاثة ملبسه، وأنه تكلف القيام له والسلام عليه، وأنه كان يكلمه بنصف طرفه، ويسير إليه بشطر أنفه، وأن أهل بلده همذان في الذؤابة من الشرف والسيادة، وفي الصميم من الجود والسماحة، ولو قد حل الخوارزمي بينهم لخبئوه في سواد العيون والقلوب!
وقد رد عليه الخوارزمي رداً جميلاً يستلّ السخائم، ويطفئ الأحقاد، ولكن موقف البديع منه أشبه بموقف الروسيا من فنلندا: إدلاءٌ بالباطل وتورُّط في الضلال، وتجن للذنوب، وتصيد للمثالب، ومن كان هذا شأنه فإرضاؤه محال!
وهكذا أخذت تتردد الرسائل بينهما وهي تزداد عنفاً وحدة، حتى انتهى الأمر إلى الخصومة الصريحة! التي كان يعمل لها البديع ومَنْ وراءه كل وسيلة!
وكان يمكن إطفاء هذه الثائرة لولا أن خصوم الخوارزمي الذين سبقت الإشارة إليهم انتهزوها فرصة للنكاية به، فأذكوا العداوة وأرّثوا النار!