وكان هذا أول الشر؛ ثم نهض الفتى الذي كان بين يدي سيدنا وحل محله صبي آخر؛ ومضت فترة قبل أن يدوي صوت الشيخ في أذني مرة ثانية وهو يميل على فخذ الغلام يقرصه. ولم يحتمل الفتى من الألم ما احتمل الصبي الذي سبقه، فندت من بين شفتيه صرخة ألم! حينئذ هاجت هائجة الشيخ، فوثب إليه (العريف) يعاونه على تأديب الصبي؛ وفي أسرع من خفقة الطرف كان الصبي مجدولاً على الأرض معلقاً من رجليه في خشبة غليظة يشدهما إليها حبل مفتول، والشيخ يهوى على رجلي الغلام بالعصا في قسوة وعنف، وهو تحت رحمته يصرخ ويتلوى وبعض على شفتيه من ألم الضرب!
أحسست قلبي في تلك اللحظة يكاد يثب من موضعه فرقاً وخشية، فوليت بصري إلى الناحية الأخرى، فإذا صبيان المكتب جميعاً منكبون على ألواحهم ودفاترهم في خوف وفزع، وقد زادت هزاتهم وتتبابعت في سرعة كأنما يحركهم محرك غير منظور. ولم ألبث أنا نفسي أن رأيتني أهتز مثل هزاتهم وأحرك شفتي وليس بين لدي لوح ولا كتاب، كأنما هي تميمة أقرأها لترد عني الشر الذي أخاف!
كانت هذه هي عقوبة كل صبي من صبيان المكتب لا يحفظ درسه، سواء في ذلك ابن العمدة وابن الأجير؛ ومع ذلك لم يحاول صبي واحد أن يتمرد على سيدنا أو يشق عصا الطاعة أو يجرب الإفلات من عقابه. وأني لهم ذلك وإن آباءهم وأمهاتهم جميعاً ليثقون بالشيخ ثقة عمياء، فلا يتسمحون لواحد من بينهم أن يشكو أو يتألم مما نزل به، مؤمنين بأن (عصا سيدنا من الجنة!)
منذ تلك اللحظة، تبدلت صورة الشيخ في نفسي فعاد أبغض شئ إلى، حتى لو استطعت أن أنتقم منه لهؤلاء الصبيان وأفر بنفسي لفعلت. ومالي أخفي عنكم؟ لقد طالما حاولت من بعد أن أسئ إلى سيدنا كلما أمكنتني الفرصة، فتارة أخالفه إلى الأقلام التي تعب في بريها ساعة من نهاره فأقصفها، لا أدع قلماً منها له سن تصلح للكتابة؛ وتارة أعابثه بسرقة علبة السعوط فأستبدل بما فيها تراباً وحصى، وتارات أخرى. . . وما كان سيدنا يعلم من يفعل ذلك، وإن كان على يقين بأن صبيان المكتب جميعاً غرماؤه. . .!
قضيت في مكتب الشيخ عبد الجليل شهراً وبعض شهر، لم ينلني فيها عقاب من عقابه، حتى جاء اليوم المشئوم!