كان عليَّ في ذلك اليوم أن أحفظ جزءاً من القرآن الكريم فلم تتهيأ لي الفرصة أن أفعل؛ وحلّ ميعادي، فجلست بين يدي سيدنا وأنا أرتجف خوفاً من عقابه، فسألته المعذرة في كلمات خافتة وصوت يرتعش؛ وبدا لي كأن الشيخ قد قبل عذري، حين اكتفى بقرصة مؤلمة في فخذي، ونهضت من مجلسه وأنا لا أكاد أصدق بالنجاة، فقد كان أخوف ما أخافه أن يجدلني على الأرض ويهوى على رجلي بعصاه!
ومضت ساعة قبل أن يحلَّ ميعاد صبيٍ من رفقائي كان عليه وحده تبعة تقصيري في درس اليوم؛ إذ دعاني في عصر اليوم الماضي لصحبته إلى الحقل لنصيد العصافير؛ فما عدنا إلا وقد أرخى الليل سدوله فلم نتهيأ لدرس الغد. . .
وجلس الفتى بين يدي سيدنا مضطرباً منتقع الوجه لا يكاد يبين، ونظرت من خلف اللوح إلى سيدنا فإذا هو في هيئة الغضب، ثم لم يلبث أن سمعته يصيح بالصبي صيحة عرفت ما وراءها، فأخذت أعالج خوفي بهزات سريعة كأني أقرأ، وأذني إلى سيدنا؛ وطرق مسمعي قوله:(وأين كنتما أمس؟ تصيدان العصافير. . .؟)
ونادى عريفه فأسرع بأداته إليه، وناداني. . . . . .
وقبل أن أرى صاحبي مجدولاً على الأرض، معلقاً من رجليه في الخشبة، كانت رجلاي تسرعان بي إلى الباب. ووقف العريف في وجهي، فلم أجد أمامي إلا النافذة؛ فاستجمعت قوتي ووثبت!
لم أدر بعد ذلك شيئاً مما كان إلا وأنا راقد في فراشي، ورجلي مشدودة إلى خشب بأربطة من نسيج أبيض، وأمي إلى جانب رأسي تبكي في صمت!
لقد أفلت من عصا سيدنا، ولكني دفعت ثمن ذلك غالياً، فانكسرت رجلي؛ ومن ذلك اليوم لا أمشي إلا مستنداً على عكاز!
وتأوه المفتش وهو يبعث في الأرض بعصاه؛ وغرق السامرون صمت؛ ثم عاد المفتش إلى حديثه:
لم يكن لي طبعاً أن أعود إلى كتاب سيدنا بعد الذي كان؛ فدخلت المدرسة الأولية في المدينة، وانقطعت صلتي بالشيخ وكتابه وعريفه وصبيانه؛ ولكن ذكراه لم تفارقني قط، ذكرى مؤلمة مرة؛ ومن أين لي أن أنسى وهذه رجلي وتلك عكازتي لا تفارقني؟