ولا يبقى منها حجراً على حجر، ويحسب أنه انتهى منهم، فإذا هم يلدون غير من مات، ويبنون غير ما إنهدم. . . فكل وأيس. . . وأحس أنه صار شيخاً!
ووقفت على بردى وهو يمشي في (المرجة) رحبة دمشق تحت قصر أمية مشية الشيخ العاجز المتهافت، فقلت له: هيه. . . مالك؟ تعًبت؟ أو قد شِخت؟
قال: دعني يا غلام، فإني أساير الأيام، فلما كانت مقبلة جادة كنت أقبل معها عدواً، فلما توْلت وهزلت. . . تولّيت. .
ومالي لا أني، وقد باد مجدي، وساء جدي؟ ألا يا ليتني ما عرفت الإنسان!
وسكت لحظة، ولاحت على خدّه دمعة تجري مع الماء، ثم قال: على أني رأيت والله ناساً كراماً. . . أجّلوني وعرفوا قدري، وكنت أمرّ بين أيديهم مر الرحيق السلسل. . . وكنت أمشي في الرياض على فتيت المسك، وأنام على غناء، وأصبح على شعر، واضحي على كرم ومجد ونبل. . . فأين أنت يا قصر البريص
وأين أولئك الذين كانوا لباب البشرية، وكانوا مثلها العليا مجسّمة، أولئك المسلمون الذين شادوا مجداً جدع أنف الدهر؟ أين ذلك الرجل الذي مرّ عليّ يوماً وكنت أمشي في الربوة على باب دمشق في الموضع الذي امتلأ هواؤه بجراثيم ذلك المرض الفظيع، فلا مر به أحد إلا أصيب به، المرض الذي يسمونه الحب فلا يذهب إلى الربوة من كان يخاف الحب، لأنه لا يرى هذا الجمال إلا تفتّح له قلبه، فذهب يفتش عمن يحب. . . مرّ عليّ ذلك الرجل العظيم، فرأى الأغنياء لهم في الربوة قصور ومنازل، والفقراء ما لهم إلا حجارة الجبل وحصى الوادي، فلم ينصرف حتى أقام لهم متنزهاّ ما رأى الناس مثله، يجري تحته (تورا)، ويجري فوقه (يزيد)، وهو بينهما جنّة، فيهما ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. فإن اشتهوا تمراً مدوا إليه أيديهم، وإن اشتهوا لحماً ناولته السمك حياً، فنقلوه من الماء إلى المقلاة، وإن أرادوا لذة العين وجدوا ما لا مزيد عليه في دار الدنيا، وعند الله في الآخرة مزيد. . .
فأين أولئك الناس، وأين اليوم أمثالهم؟
وسكت بردى هنيَّهة، ثم رجع يقول. . .
لقد شاقتني أمس تلك القصور وهاتيك المنازل، وقد سدّوا إليها الموارد، وأقفلوا الأبواب،