(فانسللت) من شقوق الأرض حتى بلغت قاعة في الدار العظيمة، دار القوتللي، التي ترى عرصاتها من (منارة العروس) إذا أنت صعدت إليها، ونظرت إلى ما تحتك إلى شمال، وراء قبر الملك الظاهر، ترى عرصاتها فتحسبها حيّا كاملاً، أو أطلال قرية كانت هناك. . . دخلت القاعة فيا أسفي، ماذا وجدت. . .
لا الروض باقٍ ولا أهلوه باقونا. . . ذوى الزهر، وجف الماء، وصارت البرك حفراً قاحلة، وقد كانت تضحك فيها أوانس الماء متراقصة ضحك الحياة في هذه الدار. . . وتعرت الجدران، وقد كانت نقوشها ومُقَرنَصاتها آية في مصحف الفن. . .
اللهم إني استغفرك - ولم يبق من ذلك (الصيني) الذي يملأ (الكبيَّات) والرفوف إلا قطع غاصت في التراب فبدت منها أطرافها، ولا من السجاد الثمين إلا خيوط الله أعلم كم بللتها الأمطار، وكم جففتها الشمس، حتى غدت وليس لها لون يعرف. والرخام الأبيض الذي كان كالمرايا. . . والأشجار والأوراد. . .
لقد انصرف الدمشقيون عن هذه الدور التي كانت مصدر الفن العمراني الأندلسي، منها أخذ وعنها نقل، وكرهوا هذه الجنان، واتبعوا الإفرنج إلى (جحر الضب. . . فآثروا عليها هذه الصناديق المغلقة التي يسمونها دوراً. فمن يفهمهم أنهم يخطئون، وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بالبقية الباقية من دور دمشق القديمة، قبل أن تهدمها حماقة المالكين، وفتنتهم بتقليد الغربيين؟
ومتى يعلمون أن أوربة ليست أرقى منا في عادات ولا دين، ولكنها أرقى في الصناعات. فيا ويح القردة المقلدين لقد ذهبوا يدرسون العربية، حتى العربية لغتنا، ذهبوا يدرسونها في باريز!
(قال): ودخلت تلك البركة التي طالما شهدت فيها أعراس الحياة أتذكر، فرآني خادم هرم، فصاح بابنه أن تعال أخرج هذا الماء الآسن من هنا. . .
ماء آسن؟ أنا آسن؟ يا ويحكم. أما كنت طاهراً نقياً أسير في الوادي كما خلقني الله؟ أما أكرمني من كان قبلكم، ورفعوني بالنوافير على الرؤوس، وكانوا يتقون الله فيَّ فلا يمسوني بأذى؟ ويلكم اينا الآسن يا ذوي النفوس الآسنة؟ كنت أصافح من أجدادكم عند الوضوء وجوهاً مشرقة نورانية وأيدياً طاهرة معطرة فصرت لا أرى منكم إلا السوء. دنستموني