الإعجاب ببحث الأستاذ العبادي، وإن كنت أخالفه كل المخالفة، وذلك لأنه مبني على منطق تاريخي جيد، ولأنه أراد لأن يفرق فرقاً جيداً بين كتب التاريخ وكتب الأدب القديمة من حيث الحجة في برهانات التاريخ. فإنا نجد كتباً من أعظم كتب الأدب تحمل على الخلفاء من غث الأخلاق ما تناقضه سير هؤلاء الخلفاء كالذي يروون عن الرشيد - وهو بالمنزلة من الشرف والعلم والسياسة وطول الانبعاث للغزو والحجِّ - من معاقرة الخمر والملاهي والاطلاع على الحرم واستباحة الأعراض وغير ذلك مما لا يمكن أن يصح بوجه من الوجوه
هذا، وإني أخالف الأستاذ العبادي، فإنه حين رده الأستاذ (أحمد أمين) رجع عن تفسيره لفظ (السفاح) بالكرم والسخاء لغير علة ظاهرة وأصر على أن (أبا العباس أمير المؤمنين) لم يلقب (بالسفاح) البتة في حياته، ولا ذكر ذلك عنه أئمة المؤرخين وأصر مع ذلك أيضاً على صفات أبي العباس وحيلته تنفي عنه أن يكون سفاكا للدماء؛ ولا كل هذا! فإن هذه الصفات لم يرو لنا إلا أقلها حتى يمكن أن نجعلها أصلاً يستشف خلق أبي العباس من ورائها، وإن الرقة والدعة والجمال ولين الخلق تخفي وراءها أحياناً قسوة لا تدانيها قسوة، كالذي يكون في النساء، فإنهن قد عرِفن بين الناس بالرقة (وهن أغلظ أكباداً من الإبل) وإن المرأة إذا ثارت لم يبلغ مبلغها في القسوة (أقْعد) الوحوش في باب الوحشية! ومع ذلك. . . فهي الزهرة غِبُّ الندى، وهي النسيم في السَّحَر، وهي. . .
وكنت أحب أن استوفي هنا القول في تحقيق هذه الصفة لأبي العباس أمير المؤمنين، ولكني رأيت أن الكلام قد جاوز حده، وأن الدليل يقتضي إثبات كثير مما يخل تركه بالفائدة، فموعدنا الكلمة التالية إن شاء الله.