للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ان بين جنبيه كبداً قد اخترمها الأسى، فلم يبق منها غير قطعة كالاسفنج راوية من قيح الحزن وصديده.

ووضع يده على جنبه يلم بها حشاه الممزق، وأخذ يبكي. . يبكي؟!. كيف! لم يكن يبكهم وقد كان الحزن جديداً، لأنه كان وقتذاك رجلا قوياً. وكان يزعم أن البكاء للاطفال والاحتمال للرجال، لأن الرجل كفؤ لحمل اثقال الهموم. بل قد كان ينكر على زوجته أن تعول ونتحب، ويطلب منها أن تكون امرأة صبوراً قوية، وكم اختطف حزام من وسطه وانهال عليها بالضرب الموجع - لترأفبنفسها! فما باله الآن يبكي وقد صار شيخاً؟! ان الاطفال اضراب للشيوخ في الابانة عن عواطفهم!.

وأهمته هذه الفكرة، وأزعجه أنه صار ضعيفاً يضطهده الحزن فلا يستطيع حبس دمعه، وكتم أنينه وحدث نفسه: (والله طيب يا زمان! بقيت عيل يا لوقا! فين عزم الرجال!. .)

وصعب عليه الامر فاستخرط في البكاء وأخذ ينشج نشيجاً عالياً. وإذ هو في بكائه فاجأته نوبة السعال، وكانت هذه المرة قوية مجتاحة متلفة. . وأحس (المعلم لوقا) كأن روحه تتسرب من بين جنبيه. وكان أعضاؤه ترتجف وتتشنج، وأنفاسه تختلج في صدره اختلاجاً قوياً. ثم أخذت حركته تهدأ، ورعدته تسكن، وأنفاسه تعود الى الخمود.

وشعر (لوقا) في تلك الآونة بشوق شديد لياسمينة، وخيل له أنها مقبلة اليه فابتسم، ومد نحوها يديه، ثم سقطت يداه الى جانبه، ومال عنقه الى كتفه. .

وأزف وقت العودة، وذهب (الكمساري) يتفقد صاحبه، وهمس في أذنه: لوقا. كل عام وأنت طيب. الدنيا برد. سوق بسرعة هلكنا. يتوب علينا!. .

كان لوقا فاتحا عينيه يحدق في الفضاء، لكنه لم يجب رفيقه، فاغتاظ، وظنه لا يحفل بحديثه فلكزه واذا به يتداعى بين يديه. .

وظهر له ما خفى من أمر زميله، وحدق في عينيه فلعم أن (المعلم لوقا) قد أنتهى أمره مع الحياة فاسبل جفنيه. ومزق السكون صوت ينادي: (لا حول ولا قوة الا بالله. . . انا لله وانا اليه راجعون!. .

كانت (كتورة) تغط في النوم، وكانت الأبنة جالسة في ثوب العيد تنتظر أباها وقد لعب القلق بفؤادها، فلما قرع الباب تهلل، وجهها وهتفت وهي تضع يدها على المزلاج: (ابي،

<<  <  ج:
ص:  >  >>